عبد الرحمان رشيد التواتي - صاحب الحمار الثاني

تأهّبتُ للسّفر في بلاد الله طلبا للحركة ، و عزوفا عن الوقوف . لم تكن لديّ أموال فأودعَها و لا عيال فأوصيَ بهم . كنت خفيف الحمل نظيفا من وسخ الدّار الفانيّة إلاّ من حمار أركبه و زق تمر زادا ، و ركوة ماء ، و برنس صوف للصيف و الشتاء . أمّا البيت الذي أسكنه فهبة من أهل قرية نزلت بها ذات غروب منذ ما يربو على العَقد من الزّمن ، قالوا : " هذا غريب و المنزل لا يشغله أحد ، خربة يخرأ فيها الأطفال ، و يجلدون عميرة جماعة بعيدا عن أعين أهلهم ، فليُقِمْ فيه . مَنْ يدري لعلّ الرّجل من الصّالحين ، فينفعَنا ."
جاءني كبيرهم فقال لي : " أنت منذ اليوم ضيف علينا ، و هذا البيت لك ما دمت فينا ، و ليس عليك من وزر ، فهو هبة و ليس إيجارا " . قبلت و ما كدت . فقد خفت أن يشدّني البيت إليه فأموتَ معهم ، أو أصبحَ من أديم الأرض . اتّخذته للنوم ، آوي إليه ليلا ، و أتركه فجرا ، حتّى ظنّوا بي الظنون ، و قال كبيرهم " لعلّه كرهنا أو عزف عنه " . ازددت عندهم غرابة و ألبسوني عباءة الصّالحين . كنت أدعهم ملتصقين بالتراب و أخرج إلى خلاء لا يعرفونه ، فأقضي سحابة يومي فيه أعلّم حماري القراءة و الكتابة و الحساب ، و عندما أعود معه ليلا أراجع معه درس النّهار فأجده قد وعاه .


مذ وقعت عيني عليه في سوق الدّواب توسّمت فيه النّباهة فدفعت كلّ ما أملك ثمنا لصاحبه ، و لم أجد لذلك حسرة أو ندما.
لم يجرؤوا على قصّ أثري خوفا من نقمة الأولياء . كانوا يسيرون أو بعضهم ورائي فراسخ ثمّ يرتدّون مرتعدين مؤمنين .
جمعت من الزاد ما يقدر على حمله الحمار وإياي . الطريق طويلة و الغاية بعيدة . و لا علم لي بما وراء البصر من مفاجآت . اتفقت مع الحمار على خارطة الطريق : سفر بالليل و كِنّ بالنهار ، اقتصاد في الجهد و الزّاد . لا طعام و لا شراب إلاّ لجوع أو عطش بعدهما موت محقّق . تَرْكُ الأتُن و النساء إلى ما وراء إدراك القصد . أن نسير حتّى تنقطع الطّريق أو يكون لنا مستقرّ لا مسير بعده .
أشرفنا ذات فجر على مدينة لم نر مثلها . قلنا : " نمكث حتّى ينقضي النهار ، وندخلها أوّل الليل عملا بالاتفاق " .
أشار عليّ الحمار باللجوء إلى كهف في أعلى التلّة . وجدنا فيه متسعا للنّوم فنام كلانا من تعب السّرى ما لا نعرف من الوقت ، ثمّ أيقظنا صوت امرأة و شحيج أتان . نظرنا فإذا باب الكهف يغصّ بالنساء و الأتن . قال حماري : " نحن في ورطة . " لم أعِ القصد . فبدا عليّ السؤال . قال " ألا ترى أن ليس بينهنّ ذكر واحد " . قلت : " أنت على حقّ ، و لكن ما الضير ؟ " . قال : " قد أفسدن علينا خطّتنا ! ؟ "
رمنا مخرجا لكنّ باب الكهف كان أضيق من خروجنا و تدافعِ الإناث . فكّرنا في الزحف فخفنا الأقدام و الحوافر . قلنا : نركب ظهورهنّ ونسير كالسابِحَيْن . لكنّنا قدّرنا ما وراء ذلك من مزالق ، فأعادنا العزمُ إلى العجزِ . أشار الحمار فاقتربت حتى ألصقت بفيه أذني . قال نسدّ علينا الكهف و نمكث هنا ، و لا نستجيب لندائهنّ ، حتّى يبدو لنا نور في العتمة أو نرى مخرجا . وافقت لعلمي به حكيما .
طفقنا نأخذ من الصخور أعتاها و نرفع بعضها فوق بعض . كنّ يحاولن عرقلة بنائنا . لذنا بالحصى نقذفهن به فيبتعدن قليلا ثمّ يرتددن في إصرار أشدّ . و بين الفرّة و الكرّة نضع صخرة ، حتّى اكتمل البناء ففصل بيننا و بينهنّ . سمعنا أصواتهن تأتينا باكية حينا متوعّدة أحيانا ، أحسسنا بنشوة انتصار ، لكنّ العتمة أفسدتها علينا ، فعدنا لتدبّر الأمر من جديد . قال لي الحمار : " لا بدّ أن نجهد قبل طلوع الفجر " قلت : " هل بدا لك ضوء في آخر النفق ؟ " انتفض الحمار كالواجد كنزا و قال : " آمنت بك نبيّا ، لولا أنّه ينقصك بعثة و كتاب. " لم أتبيّن سرّ حماسته ، فسألت . قال موضّحا : " النّفق هو الحلّ ، نحفر نفقا يبعدنا عن هذا المكان ، و قد نخرج في أرض أخرى يكون فتحها علينا أيسر " .
لم أصدّقه هذه المرّة . أدركت أنّ وراء كلّ حمار فاشل أتانا .
15 أبريل 2009

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى