ميسلون هادي - من جنات جرمانة إلى جنات البط

إنتصار وصلتْ الساحل الغربي من كندا بجواز مزور… ولم ترفع رأسها إلى السماء لترى سرب البط البري الذي سبقها إلى الغابات المحيطة بمدينة فكتوريا ذات الطقس المعتدل والجمال الأخاذ، ولكنها أحنت رأسها إلى الأرض لتحمل حقيبتها من أرض المطار إلى كتفيها… كان اليوم هو الجمعة، ويوم السبت يجب أن يأتي وهي خارج هذا الميناء.. تعال يا صالح تعال.. تعال يا فالح تعال.. ويا سامح تعال.. تعالي يا هيفاء وظمياء وشهباء.. تعالوا جميعكم إلى غرفة الضوء البهية.. والآن تعالي أنت يا انتصار من أجل التفتيش الحساس. وهناك في فصل الخريف عرضت انتصار كثيراً من حروق التنور على أنها آثار تعذيب وحشية، ووحمة خضراء في أعلى مؤخرتها على أنها موضع أبرة تخدير زرقت بها في غرفة التحقيق، أما إظفرها الذي وطأته زكية العوراء بقبقابها المعتبر وأزاحته من مكانه، فقالت انه قد انقلع بعد التعذيب في قبو مظلم من أقبية المخابرات الجهنمية.. ومع ذلك فإنها تتوقع أن ينمو من جديد في جزيرة فانكوفر الساحرة، بعد أن لم يبق منه سوى حذافير الجلد الجاف الذي انكمش وتحول إلى اللون الأسود.. بكت وهي تعيد قولها المحبوك بعناية تعمى عيوني إذا كنت أكذب…
لم يعرف المترجم العراقي، الذي كان يحمل شهادة البورد من جامعة بغداد في طب العيون، كيف يترجم الجملة الاخيرة التي تفوهت بها انتصار عن عمى العيون، ولكن الزمان هو الذي ترجمها بعد ثلاث سنوات عندما بدأ نظر انتصار يضعف شيئاً فشيئاً بدلاً من أن ينمو إظفرها من جديد في جنات البط.. ولم يكن يسمح لمنتصر، طبيب العيون بتطبيبها أو الكشف عليها، لأن شهادته لم تسعفه بالعمل في كندا إلا كمترجم مع المهاجرين الجدد الذي يأتون زرافات إلى هناك، ولكن المهم أنه طبطب على كتفها وطمأنها بأن تأمينها الصحي سيكفل لها ما تحتاجه من علاج ما دامت فوق الستين من العمر. فرحت انتصار وقالت
ــ أحقاً يوجد هنا تأميم صحي؟
ــ نعم يوجد.
ــ الحمد لله والشفاء شفاء الله.
والسنة هي السنة العاشرة بعد أن مرت خمس سنوات تبعتها خمس سنوات أخرى على اليوم الذي هاجرت فيه انتصار إلى كندا في فصل الخريف، حصلت خلالها على الجواز الكندي ذي اللون القاتم، فلمّت شملها مع زوجها منصور الذي كان ممتنعاً عن الهجرة في البداية بالرغم من أنه يستحقها فعلاً بعد أن صلمت آذانه بسبب فراره من الجيش، وقطعت رجله بسبب لغم أرضي، واحترق سنامه بسبب تفجير استهدف وزارة النفط عندما كان ماراً بشارع فلسطين بالصدفة. يقضي جل وقته جالساًعلى الكرسي المتحرك قرب النافذة المغلقة، وانتصار هي التي تخدمه وتقدم له الطعام حتى تهدل كرشه وأصبح متحركاً يتنقل بين رجله المقطوعة ورجله المحترمة.. وعندما يأتي فصل الصيف وتدفعه انتصار إلى المتنزه العام، كان يلتقي بالكثير من مهاجري بلدته قرب النهروان في سلمان باك. يسأل عشرة منهم عن سبب هجرتهم من جرمانة إلى كندا؟ فيقول كل واحد منهم.. إنه تعبان ويريد أن يرتاح الراحة الأبدية.
ــ هل كنتم في خطر؟
فيجيب ضاحكاً أحد الشباب
ــ لا.. كنا في البحرين.
المترجم الذي جاء إلى كندا بمنحة أولبرليت، كان عازفاً عن العودة إلى الديار أكثر من سكان النهروان وأور ونينوى مجتمعين، ليس لأنه يحب شطيرة الأبل باي التي تقدمها مطاعم ماكدونالدز أو البتيتة المملحة التي تقدمها مطاعم الكي إف سي.. ولكن لأن زميله الذي أنهى المنحة وعاد إلى بغداد قد قُتل بكاتم صوت.. وزميله الآخر قد اختُطف واختفى بلا أثر.. والثالث لا يزال في السجن المركزي ينام مع صغار الصراصر على سرير معدني بتهمة التآمر على النظام الجديد.. كان منثصر يبتسم من طرف فمه بأسىً بعد تلك الجملة الأخيرة ويعدل نظارته الطبية ثم يخلعها ويمسح عنها الغبار.. أو البخار.. أو الدموع..
على كلٍ.. لا يوجد أكثر سعادة من زوج إنتصار الذي كان يرسل نظره بعيداً من النافذة ويمتلئ بالفخر والسعادة على نعمة الوجود بقرب المنتزه في هذا المكان الجميل.. بدا أكثر سعاده بالهجرة حتى من زوجته إنتصار التي بدأ شعرها يتساقط من قلة الشمس، ومفاصلها تذوب من البرد، وعيونها تضعف بشكل كبير.. في السبت تمر أمام عينيها ذبابة سوداء، وفي الجمعة تتحول الذبابة إلى غمامة.. وبعد ثلاثة أشهر استيقظت لتجد الدنيا قد اختفت.. أين أنت يا حاج؟ ..لا أرى شيئاً…. هل الموبايل معك؟.. اطلب لي منتصر المترجم .. وتعال شوف ماذا حدث؟
جاءت سيارة الإسعاف وأخذتها إلى المستشفى في نقالة مريحة للغاية.. حملت الحقيبة الموجودة في الدرج المظلم وتركت خلفها الحاج منصور على كرسيه المتحرك وأمامه طبق من الرقائق المهروسة بالحليب.. الموبايل أيضاً وضعته بالخطأ داخل الحقيبة الرمادية، ثم تاهت بين الظلال وهي تتلمس طريقها إلى مصاريع الخشب الذهبية بعد أن نسيت النافذة التي تطل على المنتزه العام مفتوحة.. أليس هذا هو أفضل أو أفظع ما في الزهايمر؟ أنك لا تنسى النافذة مفتوحة وحسب ولكنك تنسى أيضاً أن تحزن على الكارثة التي يسببها ذلك النسيان.
وصلت انتصار المستشفى في السابعة صباحاً.. وفي الثانية عشرة ظهراً هبت عاصفة ثلجية.. وفي الواحدة بعد الظهر دخلت غرفة العمليات.. وفي الرابعة عصراً خرجت منها.. وفي السابعة مساءً كان الحاج منصور يصرخ بصوته الضعيف طلباً للعون بعد أن غمره الثلج من قمة رأسه حتى رجله المقطوعة.. خطية منصور.. انتقل بكرسيه المتحرك من المطبخ إلى غرفة الجلوس، ولكنه سقط على الارض وهو يحاول الوصول الى النافذة التي تطل على مقبرة للكلاب.


عن:
/8/2012 Issue 4288 – Date 27 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4288 التاريخ 27»8»2012


مشاركة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى