نبيلة غنيم - أنغام الشِفــــــاء.. قصة قصيرة

جيوش من الإحباط تتسرب إلي روحه.. كل شئ حوله يتشكل علي هيئة فوهة مدفع .. تنطلق متوجهة إلي رأسه: "وسائل الإعلام، وسائل التواصل الاجتماعي.. أحاديث أمثاله من الشباب.. أحوال البلاد" - كل شئ حوله يجعله يفقد جمال الحياة ويستصغرها في عينه.. ينشط فيروس الإحباط في رأس "كريم" فيُحطم مناعة روحه تماما ليسقط فريسة المرض النفسي .
يقبع في المستشفى الكبير مكتئبا .. يتمنى أن يخرج من الحالة التى يعانيها.. لكنه يشعر بشئ كبير يضغط علي صدره كجاثوم خانق .. وأن عقله مسكون بالفراغ المُعَفَر بالإحباطات واليأس..يشعر بأنه يعيش حياة بلا هدف.. يسأل نفسه دائما: أنا عايش ليه؟
دخل"كريم" في دوامه صعبة من الأسئلة المحيرة..كل شئ بداخله يعتصر عصراً.. فنفسه يملؤها شعور بالتفاهة والعجز والسذاجة.. وأنه لا يمثل شيئاً فى هذه الحياة.
كان كلما سأل أحداً من أهله: "هو أنا عايش ليه؟؟" ..
ردوا عليه رداً محفوظاً : أنت مخلوق من أجل تعمير الكون وعبادة الله الذى خلقك!!
كانت هذه الإجابة تجعله في حالة عصبية .. تثور ثورته ويزيد انفعاله.. ينطوى علي نفسه أكثر.. لأنه واثق أن الله أكبر من أن يخلقنا للعبادة وتعمير الأرض وكفى.. أكيد هناك حكمة أكبر من هذا بكثير .. لكنه لم يصل لها بعد.
بينما هو مستغرق في شرود طويل ... دخلت عليه الطبيبة "مريم" و قطعت حبل شروده .. وبدون مقدمات فاجأها بسؤاله: إحنا عايشين ليه؟
سكتت الطبيبة لحظة وابتسمت ابتسامة خفيفة وقالت له: أنا أعلم إنك بالقطع لا تريد إجابة تقليدية.. فأمثالك من عميقي الفكر والنظرة لا يرضون بتلك الإجابات.. مع أن الإجابات التقليدية أحيانا تكون صحيحة جدا.. لأنها حصيلة خبرة كبيرة وتلخيص موجز لتجارب الآباء.. لكنى سأجاوبك بلغة جديدة جدا..
وقامت وأحضرت آلة الكمان الموسيقية الجميلة التى تعتبر من أحن أصوات الآلات الموسيقية... وقالت له : حاول أن تنظر من النافذة للسماء.. انظر للحديقة الكبيرة التى أمامك ولاحظ الورد والشجر الجميل .. واسمعني.
بدأت "مريم" في العزف علي "الكمان" بنغمات هادئة رقيقة.. تدرجت في العزف حتى وصلت إلي صوتٍ يُشبه البكاء.. استدار كريم بكل حواسه لمريم..
سألها : هل يبكى الكمان؟؟
لم ترد عليه بل واصلت العزف وجعلت الكمان ينتقل إلي حالة أخري .. صار يزغرد ويُشيع روح الفرح من حوله..
تعجب كريم من طريقة العزف التي تعمل عليها مريم.. ما بين بكاء وفرح.. إلي أن انتهت من العزف .. وقبل أن يسأل ردت مريم علي السؤال الذى يتأرجح بين ناظرَيْه..
قالت له: لغة الموسيقي لغة متكاملة.. مثل الحياة تماما.. دموع وفرح.. خير وشر.. يسر وعسر.. جميل وقبيح....
كل شئ وعكسه موجود في الحياة، وهذا سر جمالها بالتأكيد.. وهذا ما يجعلنا نعيشها.. لأننا نصل معها إلي درجة الثقة بأن بعد الضيق فرجاً.
سكتت مريم لحظة ثم سألته:
لم تقل لي: ما رأيك في السماء؟؟.. هل تعتقد أن السماء لو لم تعمل ما أمرها الله به ولم تمطر.. كنا سنرى هذا الجمال الذي نراه الآن ؟؟
رد كريم قائلا :كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.
فابتسمت مريم وقالت له: هنا نقول ، إننا ضمن منظومة كبيرة وكل منا له دور في الحياة .. لابد أن يقوم به .. مثل دور السماء بالنسبة للأرض.!!
تركته مريم وخرجت .. تركته حتى يُعمل عقله بشكل أوسع .. وكيلا يحصر رأسه في جملة "إحنا عايشين ليه" أو ليرى الكون بحجمه الطبيعي ويعرف كيف يرد علي سؤاله بنفسه..
في اليوم التالي أتت مريم تحمل آلتها الموسيقية.. رأت السعادة في عين كريم.. وبدون مقدمات بدأت تعزف نغمات كلها فرح وسعادة تتناسب مع السعادة المُطلة من عينيه... تجاوب كريم بشكل كبير مع عازفته الجميلة وكأن النغمات تلثم أذنيه ..
بدأ يرى ألواناً أخرى في الحياة مختلفة عن ذاك اللون الرمادى الذي سيطر علي عقله كثيرا..
عندما أدرك الجمال وشَوّشَ العزف على درجات إحباطه ليزحزح ما استقر في عقله المحبط.. بدأ يفتح ذراعيه للحياة.
في كل يوم كانت مريم تعزف علي أوتار كريم معزوفات الحياة .. تناقش معه كل الأسئلة التي تشغل باله وتطمس رؤيته لألوان الحياة..والتي أصبح يراها كلها الآن.. مزجت الموسيقي في قلبه بين كل الألوان .. خرج منها بمزيج رائع من المشاعر والأحاسيس التي تقويه وتجعله يفهم الحياة وينظر لها بمنظور شامل.. وتجعله يتحكم في عواطفه وأفكاره وحالته النفسية.. فقد انفلت من عقال المرض.. وراح يهرول في ساحة الأنغام.
وفي مقابلة لأسرة كريم .. انفردت مريم بأمه وأَسَرَّتْ إليها بأن ابنها يحتاج إلي قدر كبير من الاحتواء والتبصير بأهمية وجوده ودوره في حياة الأسرة، وحياتها كأم علي الأخص.. كما أشارت عليها بأن تنبهه لشبابه والطاقات الكامنة بداخله وكيفية استغلالها حتى يحصل علي إجابة لسؤاله !!
مع الحب الذي أحاط كريم تدفقت دماء الرغبة في الحياة في شرايينه.. فقد أثرت فيه الموسيقي إيجابا.. كأنها سكبت الرغبة في الحياة بدمه مرة أخري فصارت شغله الشاغل
بدأ حياته خارج المستشفى بتعلم الموسيقي.. وحشد طاقاته النفسية بمزيج رائع من الأمل المشحون بكل جديد يجمعه بالحياة كلها جملة وتفصيلا في تناغم تام.
وكتب في نهاية أجندته التى كان يدَّون فيها كل ما يشعر به:
"الشعور بأننا نمّثل شيئا كبيراً بالنسبة للكثير ممن يحيطوننا هام جدا لنا.. يكفي أن نعيش من أجلهم .. ومن أجل هدف يجعل لنا بصمة في الحياة ".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى