نبيلة غنيم - حياة مسكوبة.. قصة قصيرة

في غرفة بيضاء وثوب سماوى تتكوم "نجاة" تزدرد أعوامها الماضية، وحيدة كئيبة، إلا من خادمة استأجرها أولادها لتكون إلى جانبها في مرضها الأخير، هي في عامها الثالث بعد الثمانين، تتهافت عليها الذكرى على هيئة صور .
صورة فتاة الجامعة المتألقة، تقف وسط جمهور من الطلبة والطالبات تُلقى قصيدة شاعرة ساحرة، ترتفع قامتها زهوا بما تراه في عيون سامعيها، التصفيق الحاد يثلج صدرها، يقوي عزيمتها على المواصلة، هي اليوم باكورة حلم معظم الشباب من حولها، الشِعر الناعم بصوت أنثوي له وقع كملمس الحرير، يُفَجِر المشاعر والأحاسيس، تلفها الأفكار المخضبة بحلم الشهرة.
تنتقل بالصور لحفل زواجها من جارها الوسيم، الذي جذبه توهجها وحَلُمَ معها بحياة راقية، وبأولادهما في المستقبل، بالتأكيد سيفخرون باختياره لها كأم مثقفة، غلبت التقاليد وكسرت أطواقها، فكان لها شخصيتها التى تعتز بها وتعززها عند الآخرين.
تتهافت عليها صورة الحياة وقد مدت لها كفيها، الكف اليمنى عليها زوج وأبناء يجمعهم بيت صغير هادئ لتكون فيه أماً رؤوماً، والكف اليسرى عليها شخصها، متألقة في مجتمع الشعر والشعراء. ترى صورتها في كل بلد تسافر إليها، سواء للعمل أو لحضور الأمسيات الشعرية، وكلما عادت لمصر، عادت محملة بالشوق لزوجها، تعود للسفر محملة بجنين في أحشائها، حتى وصل عدد الأبناء "خمسة".
لم تَشْغل بالها بالتفكير في هذا الجمع الكبير الذي يحتاجها !!..
فقد اجتاحتها شياطين الشعر وسوَّلت لها بأن هذا العَالَم الصاخب سيمنحها كل شيء، سيجمع يوما بين كَفَّي الحياة الممدودتين، عندما يُصبح اسمها راية تَبَاهي لأولادها ولزوجها.
تبزغ أمامها صورة زوجها وهو يتحمل عبء الأبناء الخمسة بصبر وجلد، الخلافات تصل بينهما إلى حد القطيعة.
أغلق زوجها أبواب العودة أمامها عندما ضاق رداء الزوجية عليها فمزقته بغيابها المتواصل وخروجها عن طوقه.
تسكعت الأمومة في دائرة حلمها المتوج بالشهرة فاتسعت المسافة الفاصلة بينها كأم وبينهم كشاعرة، كان عليها أن تختار، فاختارت كونها شاعرة، حاولت تعويض أولادها حرمانهم منها بالمادة، إيمانا منها أنه العطاء الأكبر، فتعلَّم بذلك أبناؤها أن الحب يعنى المادة وحسبْ.
عايش والدهم كل مشوار حياتهم إلي أن ارتبطوا به وتناسوها تماما، لم تُعايش إنسانيتهم بكل حالاتها.. لم تسمح لأحد من أبنائها أن يسلبها أوقات تألقها وإبداعها حتى لفظوها مثلما يلفظ البحر الجثث.
صارت حادة الطباع، حادة الصوت والإلقاء، صار الهجاء هو وسيلة الصد الوحيدة التى تُنفس بها عن ما يعتمل بصدرها من حنق وقهر.
في المستشفى سألتها خادمتها، وكانت قد سمعت قصتها مع أبنائها:
- ألم يكن من بين أولادك الخمسة قلبٌ واحدٌ حانيا؟ ؟ !!
- تنهدت بعمق وكأنها تُخرج ما في باطنها من ألم اغترابهم عنها، سكتت قليلا وكأن الموت يُدانيها، كما لو كانت السائلة قد غاصت في جُرح عمرها الرابض في فؤادها المكلوم ، قالت في وهن شديد:
كم أشعر أن موهبتي قد ابتلعتْ عمري كحوت أزرق تتوه في دهاليز جوفه أعتى الأحجام، صار إبحاري صوب حلم الشهرة هو الجسر الذي هوى بي في بحر الخيبة آخذا معه الواقع إلى هاوية المجهول.
حاولتُ كثيرا تبرئة ذمتى بمنحهم المال بدلا عنى، فحاولوا هم تبرئة ذمتهم باستجلاب خادمة لي بدلا عنهم، كثيرا ما تخيلت أننى سأدفن في مقابر الغرباء لانقطاعهم عنى، مع أننى بنيتُ لهم البنايات وتركتُ لهم الأموال الطائلة في البنوك !! وما كان منهم إلا الجحود!!
دمعة ترقرقت في عينيها، قالت لخادمتها: دعكِ من هذا الحديث، أريد مَنْ يضمنى إلى صدره ضمة الحياة التى فقدتها.
شاركتها الخادمة البكاء في احتضان دام عدة دقائق، سكت الصوت وطال العناق وخمد الجسد الواهن.

تعليقات

السرد ينم عن تجربة متميزة ،يعبر عن حالة إنسانية تستشعر الفقد في ظل حياة مليئة بالمتناقضات والمشاعر تخرج ما في باطنها من أوجاع صنعها الزمن ولم اتجد من يشاركها أوجاعها واحزانها سوي خادمتها في لحظة فراق للحياة
 
السرد ينم عن تجربة متميزة ،يعبر عن حالة إنسانية تستشعر الفقد في ظل حياة مليئة بالمتناقضات والمشاعر تخرج ما في باطنها من أوجاع صنعها الزمن ولم اتجد من يشاركها أوجاعها واحزانها سوي خادمتها في لحظة فراق للحياة
تتناثر الحكايات علي قارعة الحياة ، وهذه القصة لشاعرة حقيقية ، توفت في أحضان اغترابها عن نفسها، فلم تجد إلي جوارها سوى خادمة بالأجر دون حبيب أو ولد ، دون صيتها الذي ملأت به الدنيا دون بروفها وأفكارها .
شكرا أساذنا المبدع إبراهيم عطية لتعليقك الرشيق
 
جميل ماسطر يراعك .. بوح ثر واحرف فخمة تشكل قلب المعنى
مبارك لك هذا السرد ..
بديع حرفك سيدى يسعدنى، وشرف كبير تواجد حرفك يمدح حرفي
شكرا المبدع الراقي عدي المختار لكلماتك الراقية
تحياتى وتقديري لشخصكم الكريم
 
أعلى