أبو يوسف طه - من أرشيف الطفولة -7- الدهشة الأولى

في المنزل الصغير/ الدويرة/ برأس درب سيدي مسعود ولدت، والدي وقتئذ ينتصب أمام فوهة الفرن الحامية، ملتقطا من الألواح المقرص، والباريزيان المستطول المعدمن لدن العجانين، يحشو الفرن الملتهب ، ويخرج خبزا في لون الذهب.
تعاونت جدتي زهرة وزوجة عمي على التوليد . كنا عائلة صغيرة... والداي وعمي
وزوجته وابنهما الذي رزقاه قبلي بستة أشهر. لم تكن هناك عادات للولادة ، تماما مثلما عند المواشي. تم كل شيء دون احتفال، لم أكن المولود البكر ، لقد سبقتني الى الدنيا أختي زينب التي لم تتم السنتين حتى غادرتها.
تحكي أمي.. كنا نعيش على الكفاف . المنزل لايضم من الآثاث والمواعين غير الضروري... فراش، أغطية، عدة الشاي، خابية الماء الشروب المجلوب بواسطة القرابين من حنفية الحي ، وهي دكة مقببة من الحجر المسمنت بها صنبور، ومنبسط مبلط يتوسطه مجرى، على جانبيه نساء ورجال يصبنون ثيابهم .. كان الطعام محدودا في أصناف قليلة، نحمد الله فوصعنا ترف بالنسبة لما عليه عموم الناس ،مرد ذلك لاشتغال والدك في مخبزة بحي جيليز بشكل دائم، الطبيقة لم تخل أبدأ من الخبز، ولدينا كمية كبيرة من العدس والحمص والقمح والكمون، فوالدك كان يدخل في شراكات مع الفلاحين بل وكان يتاجر في الأغنام.
الخبز أساسي. الناس كانوا يموتون جوعا... عام البون. مدخول والدك واكراميات المشغل الفرنسي الذي أثنى عليه مرة ممتدحا تفانيه في الشعل بأن خاطبه/ محمد أنت تشتغل كالحمار/ .. مكنه ذلك من شراء المنزل الذي سكناه . كانت
أمنيتي الغالية ،فضلا على ادخاري الفلس فوق الآخر ، وأنا ممعنة في حث والدك
على التدبيرالحسن لتوفير السكن ، أن يكون لنا منزل. أثناء ذهابي وايابي
للاستبضاع أو قضاء بعض الحاجيات في درب بوطويل المحاذي لنا حيث يمتد سوره من فندق السرسار الى باب دكالة، هذا الباب الذي كان مربض العسس الذين يتكفلون باغلاقه ليلا.كان الامتداد بجوار السور مليئا بمآوي سكنية قصبية ، كنت أحلم بواحدة منها سأما من الانتقال من منزل الى آخر. تحقق ذلك بشراء المنزل الذي ولدت فيه . كما كنت أحلم بأن ألد طفلا أهبه للكتاب ليصبح فقيها، وأسميه حميدا . لما ولدت انتقى جدك لك اسم امحمد لكنني كنت أناديك
ب/ حميد/ الى أن رأيت في المنام شخصا قال لي / اذا أسميته حميدا سيموت /فعدلت عن مناداتك كما رعبت.
المنزل مبني بالطين المدكوك على غرار أغلب منازل المدينة ، وموقعه جعله مشرفا على بوطويل الضاج بحركة الجنود ، والكوم / تنطق الكاف كما تنطق الجيم في مصر/ بجلابيبهم، والعسس حيث تسمع من بعيد طقطقات أحذيتهم ذات النعل المقوى بمسامير تثبيت الحدوات. كنا سعداء فالجوع عام ، لا يستثني الا القليل مثل عموم الناس .. القذارة، واللباس الرث ، والقمل ، والبرغوث، والبق، وانتشار الأمراض كالرمد الحبيبي ، والسعال الديكي، والجذام ، والسل ، والتفوئيد . ورغم ذلك كان الجيران متواصلين، يتزاورون ، يتآزرون ، يساعدون المملق . كان والدك ذا مزاج عنيف ، وكنت حاذقة في التآلف معه لأنني يتيمة ، ولا مكان آوي اليه ، وأمي تقضي أيامها في البادية ، وأجد حرجا وبل ومذلة في العيش مع أخي رغم أنه كان مظلتنا وقدم لنا الكثير.
فعلا أبي يأتي الى المنزل متوترا، مجهدا بفعل عمله الشاق الذي يغرق فيه نهارا أو ليلا، ولأنه ذو أصول بدوية ، وتيتم مبكرا من جهة الأم فقد بات سلوكه مستفزا، ولغته غير مقلمة مثله في ذلك مثل البدويين ذوي الطباع النافرة التي تؤدي بهم الى الشجار لأتفه الأسباب اذ كانوا ينقلبون كفصول السنة، وما أثار دهشتي في ما بعد الرهافة والهشاشة العاطفية اللتان جعلتا من والدي انسانا يتآلف فيه طبعان أحدهما لايمت بصلة للآخر، وهو أمر محير.
هذه الدويرة تردف أمي كانت فألا حسنا علينا .مرضت، ومن الصدف العجيبة أن والدك قرر الآنتقال الى الدار البيضاء فباع الدويرة ب 12ألف ريال .. تلك المدينة كانت قذرة . الناس في أسوء حال لباسا ونظافة .. متسولون ، باعة الثياب المسروقة من الثكنات العسكرية ، جامعو أعقاب السجاير التي يفتتونها للحصول على بقايا التبغ ، وعرضه للبيع لمن يلفه في النيبرو لتدخينه .المنزل الذي اكتريناه بدرب اليهودي تزكم رطوبته الأنف . لم نآلف المدينة لهذا لم نمكث طويلا حتى عدنا الى مدينة مراكش ، فاشترى والدك منزلا بدرب سيدي مسعود ، في الدرب الواصل بينه وبين عرصة اهيري .كان الأمر مواتيا لأن أزور ضريحي سيدي مسعود، و أبي العباس السبتي. قلت لأمي مستدركا . نعم ، منزل بغرفتين، وبئر مجاور للمطبخ . أتذكر ذلك جيدا ، و في البهو الصغير يقابل المرحاض الباب الخارجي.
أمنت أمي ، هذه السيدة البيضاءالبشرة ، القصيرة ، المكتنزة ،ذات الوشم
الأخضر على الدقن ، فهي مغربية صرف كالماء الزلال ، والدها أمازيغي، ووالدتها
عروبية. قلت أمنت على كلامي ، عدت بذاكرتي الى مرابع الطفولة حيث كنت أرى الأشياء المتكررة كما لو أنها تحدث لأول مرة...كنت أرى من موقع الدهشة الأولى، وليس في وسع ما يرى أن يترسب كخبرة .كانت الموجودات والوقائع والأشخاص تبدو في انفصال ...جدتي ذات اللون الخروبي التي تحوك الأغطية الصوفية على النول، خالتي المزمنة المرض ، خالتي الأحرى ذات الثديين الكبيرين ، خالي الذي جاء ببقرة اشتراها ووضعها في البهو فأثارني روثها الأخضر السائل، طربوش أبي الأسطواني الأحمر ،وشكارته، الفونوغراف، الصخرة الضخمة المركونة في مدخل درب الحجرة ، الفران، باب الدكان الموارب الذي فتحته ،رغبة في شراء الفنيد / حلوى / ، فهربت مفزوعا لأني لمحت صاحبه فوق رجل منبطح على بطنه ، موكب جنازة يمر ، وأثناء فراري خوفا صدمتني دراجة فانغرز قضيب الكابح تحت ذقني تاركا ندبا ، تنطيف المرحاض واركام مادة لزجة كريهة في الفناء، جارنا الحمري الذي يدخن الكيف ، ألم ريشة تلقيح الجذري على ذراعي الأيسر، الأهبل بابا عقربة ، الجنود السينيغاليون بعرباتهم ذات العجلات المصفحة باطار معدني، وكركرتها وهي تتمايل فوق أرض غير مبلطة، النساء المنقبات، الملفوفات بألحفة متباينة الألوان ...كان كل ما أراه قريبا مني ، بعيدا عني في الآن ذاته .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى