أبو يوسف طه - من أرشيف الطفولة -8- عقلة اللسان

...وكأني أجتذب صورا من غور سحيق ، لا تهدأ عن الارتجاج. هناك قوة طاردة كما لو أن عقلة في اللسان أعجزته عن الحركة. كنت أرغب في أن أكون كراكب حصان جامح منطلق في براري الذاكرة وشعابها وودياتها غير أن الدائرة تضيق لأنني الكثرة في الباطن، الواحد في الظاهر.
حدث مرة ، في البادية ، وأنا أرتدي سراويل دجينز وقميصا أزرق خشن الثوب
بياقة قصيرة و بأصداف نحاسية اللون ، شبيه بلباس ماو تسي تونغ أن امتطيت
حصانا لوالدي عسلي اللون بدون سرج أو لجام . بدأ الحصان يتلوى منزعجا ، ويرفع قائمتيه الى الأعلى ، ملوحا برأسه في تحد ثم انطلق فجأة مسرعا واندس في ممر بين نبات التين الشوكي يكاد يسقطني في مصيدة شائكة . هكذا تبدت الذاكرة وهي تنطلق متحررة من الأسر...فالأجدى أن أكلم نفسي داخل أسوار شائكة ، لا يمكن تخطيها كمن يناجي السماء وهو وحيد في العراء ، في فضاء خال الا من الجداجد، والأصوات المبهمة لما لايدرك ... وأن أترك الأصوات الخبيئة في الصندوق المزخرف الذي صنعته يداي ، في هذا الصندوق أودع ما لا يروى، يظل مكتوما حتى يوارى مع جثتي ، ويتحلل في القبر فيكون جانب مني في الضوء، والآخر في الظل ، لأننا لايمكن أن نسير عراة ، والا أكلتنا الأفاعي التي أوكارها الأفواه التي تقضم الناس قضم الحمير للشعير... يقال ان فلانا الأجرأ والأروع من بين أبناء القبيلة ،كما لو أنه ممحاة ليمسح به غيره ، ولو كان فلان المبجل كثرة في الواحد لما سار عاريا ، يقتات على الخبز الحافي..
نحن مأسورون في أن لنا في كل نحوجذرا، يخرج منا صوت فتتداعى أصوات منا لتخرسه، و كأننا فراشة علقت في شباك عنكبوت، وهاهي الذاكرة تستولد من أعطابنا وخرابنا حارس أمن، حاذق النظر،درب اليدين، له قوة خارقة على صد المحظور، ومنعه من الولوج الى البوح الا بامتلاك أساليب التهريب مثلما يفعل متدين متعصب حين يسجن امرأة في ثوب لايكشف الا عينيها المرتجفتين في احتجاج صامت.هذا السجن الثوبي الذي يخفي فيه فوبياه، مستمتعا استمتاع ناظر الى كناري في قفص ، فاقد الحق في الطيران.
هاهو الصندوق المزخرف ذو القفل النحاسي اللون يغري بأن أبعثر محتوياته من آلام وجراح .. مهلا ، أشعر بأرواح تنفض عنها الغياب في أوبة للانتقام ، ومنها روح أخي المصطفى . هذا الصنو الذي توفي غرقا في وادي اسيل ، في يوم قائظ من ايام أصياف مراكش حيث تبرق شمس الظهيرة كانعكاس في مرآة لامعة تغشي البصر . هذا الطفل النحيل ذو الرموش الطويلة الذي كان لي أنيسا، نبدد الفراغ في اللهو معا، والتجوال معا، واللوذ بالظلال المفروشة جوار قواعد الحيطان في حينا ، حيث وقت قيلولة الوالدين .نخرج معا دون رقابة لنلعب البلي أو الخدروف . كنت في السابعة، وأخي ولد عقبي ، وفي يوم مشؤوم ، اقتادنا طفل يكبرنا ،فانطلقنا كالعصافير، انفتح القفص عنها عرضا فطارت نحو السماء الرحبة ، ولم تكن تعلم أن ماسورة بندقية صياد متأهب مصوبة من مكان ما .
خرجنا من عرصة اهيري الى عرصة بن ابراهيم ، ثم النقب المفتوح في السور ، فالمجاز الضيق بين خطارتين بقبور اشو ، الى جدول مائي مقابل جنان سيدي بلعباس حيث خلعنا ثيابنا وكومناها أرضا ، ثم قفزنا الى الماء سابحين. لم تمهلنا النساء المنهمكات في غسل أصواف وملابس حتى بدأن في الاحتجاج والصراخ ،مما أجبرنا على ارتداء ثيابنا متذمرين، وانصرفنا الى عين ايطي حيث وادي اسيل. ياليت النساء الهائجات لم يفعلن ذلك ... لما وصلنا هبطنا منحدرا، تنتهي حافته باعشاب متجذرة متينة تتدلى قليلا نحو الماء الذي يتدفق غزيرا متوحلا . وقفنا ثلاثتنا على الحافة مترددين.
لم يجرؤ أي واحد منا على الارتماء للسباحة .كانت الحافة موحلة لزقة... فجأة رأيت أخي يتقلب وسط الماء، يبدو تبانه الأحمر، طهر مرتين طافيا ثم اختفى . شققت الصمت بصراخ حاد ، بقيت وحيدا فالطفل الذي اقتادنا غاب ، والمكان خال ففي الظهيرة تخف الحركة. كنت أصرخ ملء قواي في هلع، وأنظر عديم الارادة في الماء المتقلب المتلاعب ، في قسوة ، الى من كان الى جانبي منذ حين ، والى ملابسه. ماذاعلي أن أفعل؟. تحولت الى آلة صراخ وبكاء لاكابح لها.كنت أحاول الهبوط الى الماء متمسكا بالأعشاب ثم أتراجع لأن قدمي لم تصلا الى أرضية الوادي .امتلأت حواف الوادي بالناس .. على حين غرة خلع رجل لباسه وخاض في الماء الموحل ذي اللون الكتبي.جاء الاطفائيون، وبعد بحث وجيز نشلوا أخي جثة هامدة ، وفي حسباني أن سيكون حيا يرزق... جثة هامدةوهو الذي كان مذ حين يشاغب ويلهو، ويمني النفس بأن سيعود الى البيت . أحسست بضياع وسط امتداد الفضاء، وهرج المتراصين على حواف الوادي ومنحدراته كأعشاب مكتملة النمو تصعد من باطن الأرض .كيف حدث الأمر ؟.
هل نط أخي الى الماء طوع ارادته؟
هل غافلته ودفعته وسط الماء؟ هل دفعه مرافقنا ثم فر بحلده ؟... هذه جمرة
تلتهب في الحنايا...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى