حمزة السعيدي - البئر..

هكذا عرفت قريتي وبهذا الإرث كتب اسمها قرية بئر الأكاذيب أو بصندوق الظلال.
لأهل قريتي تقاليد عديدة أهم هذه التقاليد تلاوة أكاذيبهم حول بئر القرية، هكذا علمنا شيخنا وكبير قريتنا هذا الطقس الذي ورثه عن آبائه رغم أنه ليس من أبناء هذه القرية..

قال إن جاعت هذه البئر من الأكاذيب سيجف نبعها ولن ينبت شيء في ربوع قريتنا. كانت البئر العميقة تقايضهم على أكاذيبهم بأن تأخذ قطعة من ظل كل شخص يزورها بجرار الكذب.

فما كان على أهل القرية الذين هم أغلبهم من الفلاحين سوى أن يأخذوا هذا الأرث ويذهبون كلّ يوم إلى البئر.

هكذا، صرنا نلعب هذه اللعبة الغريبة كبارا وصغارا نبدع في الكذب كل يوم نفرغ جيوب أفواهنا من الأكاذيب، ننسجها على شكل كرات وبالونات، ثم نرميها لبطن البئر التي لا تشبع، لم تهرب أي كذبة من أفواهنا إلّا واقتنصناها للبئر.

ظلت البئر تنهش ظلالنا قطعة قطعة، تتقاسمها مع شيخ قريتنا الذي كان ينسج من ظلالنا حبالا طويلة يقول هي لجرّ دلو البئر ولثام لوجوهنا أيام الصقيع، أما ما بقي منها فقد كانت تصنع منها البئر غيوما شاحبة مثل عيوننا، فقد كانت تملؤها بكمية من مائها حسب عدد أكاذيبنا لتسقي محاصيلنا أيام الجفاف.

ها قد جاءنا الصيف والبئر لم تشبع من أكاذيبنا، بينما ظلالنا كانت تختفي شيئا فشيئا حتى صارت أجسادنا ثقيلة بلا ظلال، لا تقوى على الحراك. ومحاصيلنا لم تعد تكفي حتى لإشباع العصافير.

حملنا أكاذيبنا الأخيرة للبئر، وكانت الشمس الحارقة قد صنعت من جباهنا شواطئ من العرق، سرنا حفاة متثاقلي الأجساد بلا ظلال وألسنتنا كالبعوض تبحث عن قطرة ماء تمتصّها، وشفاهنا لا تدرك كيف تنطق بآخر أكاذيبها. لقد حملنا أغرب الأكاذيب إلى البئر حتى نباركها بها و نرجوها أن تتكرّم علينا بغيث يشفي جفاف أرواحنا.

صرنا نفرغ جيوب أفواهنا من الكذب، وحميرنا كانت تكذب معنا، فقد كانت تنهق بأكاذيبها، قالت إنها لم تتزاوج بأمهاتها. حتى جدران معابدنا كانت تكذب، وقالت: لم يتبول علي أحد، وكلابنا جاءت تجر أكاذيبها نابحة وقالت أنها لم تلف ذيولها بذيول بعضها، ولم تتزاوج. حتى زيتوننا مد جذوره وقال لم تمسسني ريح يوما ولم يحط على جذوعي غراب. حتى نساءنا قلن لم نقبّل أحدا في الخفاء. أما أنا فقد ألقيت بكذبتي في قاع البئر بقوة وقلت له أني أطول رجال هذه القرية.
و في وهلة منا صرنا نرى البئر تفيض بمائها و تتقيّء أكاذيبنا، خلنا أنها لحظة الخلاص حتى صارت البئر ترمي بغيومها فوقنا وتنثرها كالبركان بغضب، غير أنّ صوتا خفيا جاء من حيث لا نعلم، تكلّم كالقضاء، وقال:
حتى هذه البئر هي مجرّد كذبة.
إنها كذبة شيخ قريتكم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى