فوزية ضيف الله - مجنون وباري (الجزء 5)

الجزء الخامس من قصة مجنون و باري

توقف الراوي ليومين عن الكتابة، وترك شخصياته في سراح من قيد حروفه . سعد في مغارته يعني العزلة والهروب ممن يبحثون عنه لارجاعه لمستشفى المجانين، أو لتسليمه للجهات المعنية. يخربش في أوراقه الكرتونية، يحاول تذكر ملامح أحلام، والطريق المؤدي إليها بعد غياب دام سنوات. أما أحلام التي انغمست في ألوانها، فقد حاولت النهوض من وحل العادات والتقاليد، وأرادت التحرر من سلطة القمع اليومية، ومن سلطة الزمن الذي تمرره الذاكرة. فلما كان سعد يرغب في استرجاع الذاكرة، كانت أحلام ترغب في رميها عرض الحائط وتجريب ملكة النسيان.
ظل الراوي في تواصل مع قرائه الذين تعلقوا بأحداث القصة. فكانوا يراسلونه يوميا يبحثون عن نقطة ضوء تنفرج بها الرواية. كانت القارئة "أسماء" المحرك الخفي للرواية، تستفز الرواي كل يوم برسالة تحاول من خلالها انقاذ صورة المثقف العربي. كانت أسماء تعيش الرواية بتفاصيلها، وتنتظر الانتقال سريعا لالتهام ما تبقى منها من أجزاء. لعل ما كانت تخشاه أسماء، هو أن يتخلص الراوي من القصة، بعد أن انغلقت أمامه سبل تحريك الأحداث، وبعد أن تاهت شخصياته منذ البداية في مرحاة التأزم الخانق. قالت أسماء: "أنا أتأمل أن يكون الجزء التالي باعثا على الانفراج ولو قليلا لكي يبقى للمثقف بصيصا من الأمل يمكّنه من مواصلة آماله وإعادة كتابة ذاته المنتصرة". عندما تلقت أسماء خبر نشر الجزء الرابع، سارعت بفتح حاسوبها، متلهفة لمعرفة أخبار أحلام وسعد. وكانت تنتظر أن يكون الراوي قادرا على جعلهما يلتقيان. كانت الرسائل بين الراوي وأسماء عنصرا من عناصر الرواية، يحدث خارج القص الأصلي، وخارج الزمان السردي. ولكن الرواي أراد خوض المغامرة باقحام قرائه في سرده اليومي. كان الراوي يؤمن بقولة رولان بارط، "لكي تستمر الحياة، علينا أن نحكي".

لمّا أنهت أسماء قراءة الجزء الرابع "الإرادة المقتدرة وكوناتوس الألوان"، انفرجت أساريرها، كما يظهر في فحوى رسالتها التي كتبت فيها: "يتضح للقارئ أن الفتاة أحلام قد استنجدت بالفن مهربا من قساوة الحياة فتحولت القتامة التي كست روحها إلى ألوان زاهية وتحول البركان المتفجر إلى طبيعة يانعة ولعل القارئ يمكنه أن يلاحظ التناقض بين الألوان ودلالاتها، فهي تكشف الاطلاع الفني للكاتب والابداع الاستيتيقي لديه، فيتجلى الفن أداة ومسارا نحو الشموخ والإرادة الحرة، لكسر حواجز اليومي وبداهة الصورة السائدة. إن الفن هو أداة تحرر وانعتاق، بل هو يرقى بالإنسان إلى كون ترسندنتالي يماهي روح الإله والولادة الأولى، هو روح للجمال والتفرّد.
اكتفى الراوي بشكر أسماء، ووعدها باكمال القصة، لكن في اليوم الموالي، صرخت أحلام شعرا ملونا وتكلمت بينها وبين نفسها في ذهول فارق. فانفجرت في أعماقها فوهة الشعر التي نامت وراحت تقول:

"قد فاض مني
ما ليس منيّ وإنيّ وإنُّ إنيّ
لا يلتقيان
إني مريض وإنّ إنيّ سقيم
له برجه مثل السماء
وأرضي تراب
مرصّع بالقمح
يعلو ويعلو
بلا انحناء..
إنيّ تعالت
وإنّ إنيّ تضحك ملء الهواء
تُنصت لصمت السحاب
وتغرس وردا في طريق الضياع
تموت الورود
ويبقى شوكها في عنان السماء
يُقبّل إنّي شوكا وشوكا...
ويفيض من الشوك
ذاك اللقاء
يطير الفراش
يحطّ الفراش
وفي الفجر يُعانق
الأفق برد الشتاء الهزيل
ويغدو قتيلا
ينام إنيّ وإنّ إنّي يُتمتم
إنّه كان نجما عليّ المقام
وإنّ السماء أرادت
لمس التراب
ليحلو الكلام
ويزهر إنّي
ويكبُر في العمر كل
التجلي
وإنُّ إنّي ضاحك هاهنا...


أنصت القراء لقصيدة أحلام بصوت الراوي، ولم يكن يريد إعلامهم أن هذا الصوت الذي تكلم في أعماقه هو صوت شخصيته التي تنولد من رحم الحطام، وتريد من السماء أن تقبل أرضها ليزهو الكلام، ويعم النور المكان. وكان تفاعل أسماء مع كلمات "أحلام" في هذا المقطع الشعري مفاجئا للراوي، رغم أنه لم يحط في علم قرائه أن أحلام هي لسان حال القصيدة "إنّي ضاحك هاهنا".
راسلت أسماء الراوي قائلة : " يمكننا أن نلاحظ أن الشاعرة استعملت ضميرين في ضمير واحد للإشارة إلى ذاتها عبر أسلوبين الأول هو ذاتها الواقعية المنغرسة في العالم والتي تستقطب جميع العراقيل والمصاعب، لكي ترسم ذاتها، فقد أشارت لها بعبارة "إنيّ"، وهي عبارة دالة على الوجود الأنطولوجي في اللغة الاغريقية، فالإنّ هو الوجود، أما الذات الأخرى، فهي ذات مضاعفة، في درجة أعمق هي "إنّ الإنّ" بمعنى "وجود الموجود"، وفي ذلك عودة لمعالم الفلسفة الهيدغرية، التي انبنت بدورها على جدل كبير مع الإغريق. وهذه الذات الثانية الموغلى في وجود الوجود ، هي الذات الاستيتيقية التي تحمل وزر العالم بأسره، وتحمل الذات الأولى من عالم الأرض إلى عالم السماء، فينبجس معنى جديد وحميمي لمفهوم الزمن المعيش، وتتشكل قيم أخرى جمالية للواقع، إن هذه الذات الموغلى في الوجود هي مرآة الذات الأولى، إنصهار في ديمومة الفن، وحرية الإبداع".
وعد الراوي أسماء بمواصلة السرد، ورحب بها شخصية جديدة في الرواية.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى