نورالدين بوصباع - مؤامرة خلف الورق.. قصة قصيرة

..كيف فات عليك ألا تبوح لي بما يدور في رأسك من هواجس لعينة! بل كيف أوحت لك نفسك أن تغض الطرف عني! لما لا تكاشفني ! ألم تعد تثق في صداقتي إلى هذا الحد ! لما لا تفتح لي صدرك! ألم يتبقى بيننا حبل يشد بعضنا البعض ! أعرفك متعطشا لأفكارك المجنونة، مستهاما بها مذ فتحت عينيك على حقيقة نفسك، أعرف كل شيء عن أفكارك، بل وأحترمها ولكنك أنت لماذا تتجاهل أفكاري وتعرض عن حديثي كلما تجاذبت الحديث معك عن أشياء تروقني تحاشيت كلامي معلنا في وجهي وعيناك شبه مغمضتين أنك لم تعد قادرا على سماع نصائح أحد، بل وأنك لا تكتفي بذلك فتشيح بوجهك عني وكأنك لا تريد رؤيتي إلى الأبد، حقا أشعر بالغيض والمهانة وأتمنى لحظتها لو ابتلعتني الأرض إلى قرارها أو طوحت بي الأنواء نحو مجاهل منسية..خمسة عشر سنة مرت حتى الآن مذ التقينا صدفة صيف ذلك العام الحار بواد البزق، كان اللقاء إن لم تخونني ذاكرتي بسيطا بساطة ما كنا نحمل في رؤوسنا من أحلام صغيرة وما كان يستبد بنا من جموح طفولي، تدفعنا يد الريح الدافئة برقة لمعانقة زرقة المياه الباردة و المثلوجة، آه كدت أن أنسى! ألا تتذكر معي ولد غنيمة ما كان يثيره هذا الشاب في أنفسنا من رهبة ودهشة وهو يغطس في مياه الواد الباردة في انسيابية دون أدنى خوف ثم يطل برأسه من تحت الماء أمام ذهول الجميع، ليس هذا فحسب ما كان يثيره هذا الشاب الخارق في قلوبنا من استغراب وفضول، بل ما كان يشاع على كل لسان عن قدرته الفائقة على السباحة في الواد مكتوف اليدين والرجلين، حقا إن كان هناك من يستحق الإعجاب والمديح فهو ولد غنيمة ولست أنت.هذه هي الحقيقة وإن لم تُعجبك..اشحال قدك من استغفير الله يا لبايت بلا عشى حتى تُدرك قدر نفسك التي رفعتها عنان السماء رغم أن صورتك فـي عيني لن تتحول عـما عـرفتـك أنانـي ومتـكبر حـتى النـخــاع، لا تخدعيني أيتها الذكريات البئيسة، لا تنتفض أيها القلب الجريح، لا تنم قرير العين أيها الإنسان المخدوع فالسماء ملبدة بالغيوم والجو حزين،كم أنا مخدوع فيك أيها الصديق رغم طول العشرة وتوالي الأيام العجاف مذ عرفتُك..حاول أن تختلي بنفسك ولو لمرة واحدة، رح حدث نفسك بقلب مفتوح وصدر منشرح عساك تعثر على شيء يُفيدك، ينتشلك من حياتك المكهربة، هي الحياة صديقي حظوظ وحظك منها رأي أعوج لا يستقيم، تذكر كلامي فأنا لا أستهزئ وأستخف منك، من يتمسك برأيه يخسر كل شيء، الناس المحيطون به، العالم الذي يعيش في كنفه ، بل وحتى نفسه..ظمآن إلى الحب كما إلى الثورة والدم تحمل بين جوانحك حزنك الدفين وجروحك النكئة، تسير مطأطئ الرأس بين الدروب التي لا تنتهي ، تبحث عن شيء لن يتحقق، فجأة تستولي عليك هواجس رهيبة ترتعش لها فرائصك فتجحظ عيناك وتأكل نفسك الحيرة والضياع من حي العدير، إلى عوينة موكة، إلى دوار القطبيين، إلى الربعين، إلى الربع الخالي..الطريق لا تؤدي إلا إلى المتاهة، تنظر حواليك بتثاقل وسأم، تستعيد بعض أنفاسك المهيضة، تشد على عنقك رداءك بيدين مثخنتين وتسرح ببصرك بعيدا " هاد المدينة كحلة أُفيها وحلة، كل الأبواب فيها مغلقة،كل الأحلام فيها زائفة،كل الناس يولدون فيها على كف عفريت فيصبحوا عفاريت" .. صديقي أنا في غاية الشوق لرؤية وجهك بعد أن بدلت رأيك أخيرا عندما اكتشفت، عندما تيقنت أن ما كنت تلهث وراءه مجرد سراب، مجرد خدعة كبرى كنت مدفوعا إليها دون أن تدري،كنا حقا كلنا نحلم، لكن كان حلمك أنت كبيرا، شامخا، يطاوح كبد السماء، سيمون بوليفار ، تشي غيفارا، باتريس لومامبا، هاربرت ماركيز،لم يكن أي مكان يجمعنا دون أن تتحدث وعيناك تومضان ببريق حاد عنهم، كان حديثك مستفيضا مشفوعا بسيرهم التي لا تنفك بنفسك تمني نفسك السير على منوالها، كم كنت تغضب فيتصلب وجهك وتقسو نظراتك عندما يسترق سمعك أحدا يسفه آراءك وأنت تبدي برأيك في محاضرة من المحاضرات الساخنة التي كانت تنظمها جمعية الإشعاع الثقافي، هل تتذكر صديقي العراك الذي كان يحتدم أثناء النقاش! ومناسبة تخليد يوم الأرض ألم تكن شيئا رائعا ومثيرا ! يوم ولا كل الأيام كنا ننتظره كل سنة على أحر من الجمر..غَضَبٌ وقَسَمٌ على تحرير الأرض المقدسة من المحتلين الغاصبين..أغاني الشيخ إمام، مارسيل خليفة و سعيد المغربي تلهب في دواخلنا دماءنا الباردة، تدغدغ فينا أحلامنا الهاربة فتبدو أمام أعيننا الجنة الموعودة..البؤساء والمحرومون تحت الأشجار الوارفة الظلال يرفلون في النعيم، تتطاير شرارات السعادة من أعينهم ، يأكلون ما طاب ولذ من الفواكه، يغنون ويرقصون وحين يتعبون ينامون هانئين،كان حلما ورديا، فاتنا، يدفعنا مرغمين وقلوبنا تخفق خفقانا شديدا للتشبث به حد الفناء فيه..الآن صديقي بعدما انكشف الزيف واتضحت النوايا، حاول أن تستخدم عقلك قليلا وتترك العواطف جانبا، تحقق من الأشياء التي حولك..الأشياء التي لتهم الق بها وراء ظهرك ولا تأخذك بها شفقة أو يساورك حولها ندم..منتهى السخافة أن يندم الإنسان على أشياء تافهة ولا طائل من وراءها، أقرأ آخر رسالة أرسلتها لي من وراء القضبان فيستبد بي الحزن وتهز كياني المهانة والقسوة، أبتلِع غصة مرارة وأنا أقرأ بتمعن ماكتَبْتَ " بعد تفكير وإعادة تفكير أصبحت أقترب إلى شيء من الحقيقة وليس إلى الحقيقة، السجن حقا يقتل، يلجم فم الإنسان، يفني الجسد، لكنه يزرع في الروح بذور المقاومة والتحدي..العالم زئبقي، الأفكار فيه تتلون والقنا عات تتبدل، والإيديولوجيات، آه كم جرت الإيديولوجيات من ويلات على الإنسان، في كل مرة خدعة وفي كل مرة ضحايا ودماء! اعلم صديقي صدري يكاد ينفجر كلما فكرت في نعيم الحرية..في دنيا الله الواسعة..في وجوه الناس الطيبين ، بلِّغ سلامي إلى كل من يعرفني ، قُل لهم أني بعون الله عائد إليهم إنسانا أخر لم يعهد وه من قبل وفي الأخير مع السلامة وإلى رسالة أخرى.."
تيفلت لا تزال يتيمة كما عرفتها صديقي من قبل أن تدخل السجن.. شارع يفصل المدينة إلى شطرين..مقاهي متناثرة على جنباته كالفطر، تحاذي الواحدة منها الأخرى بشكل مقزز..قيسارية الحاج عباس تقابلها في الجهة الأخرى من الشارع قيسارية البستان الجميل..ساحة المغربي بنافورتها المعطلة تمتلئ كما عادتها كل مساء بالنساء والأطفال والمتقاعدين وبعض العاهرات، آه كدت أن أنسى أيضا بائع النقانق صاحب الطاقية الزرقاء المائلة الذي يغمر دخان نقا نقه مدخل زنقة المهندس قبالة صيدلية العسري..كل شيء لا يزال جامدا في مكانه صديقي..شيء وحيد تبدَّل أثناء فترة حبسك هو رئيس المجلس البلدي الذي طالما قبع في مكانه واستحلى كرسيه حد الموت بعد أن غدر به مقربوه وتسللوا إلى أحزاب أخرى وتحت يافطات أخرى ولكن الجميع يعرفهم حق المعرفة ..رحلة سجن قاسية قضيتَها وراء القضبان صديقي، ولن أُخطئ أن أبوح أن خروجك إلى دفئ الشمس سيكون مختلفا، سأشهد بنفسي ميلاد إنسان أخر، إلا أن تخميني خاب ذلك أن ما كنت أعتقد أنك أخذت درسا بليغا فيه ودفعت من أجله ثلاث سنوات من عمرك ذهب أدراج الرياح وأكاد أُجزم أنك مجنون، تمد عنفك إلى الموت دون أن تدري، تسير على غير هدى، أعمى، مدفوعا من خلفك كدمية لاحول لها ولا قوة، أستغرب كيف نسيت أعوامك الكئيبة وراء القضبان، نسيت أن ما وقع لك هو نتيجة أفكار بلهاء ركبت سنامها ثم أوقعتك فيما بعد في الهاوية..أوهامك حقا صديقي لا أول لها ولا آخر، تدفعك من ضفة إلى أخرى وكأنك في رحلة أزلية..مغامراتك لا تزيدك إلا إصرارا على مواصلة التحدي، كان يبدو لي أنك ستكشف حجم الزيف الذي كنت غارقا فيه، لكن بمرور الوقت تبين لي أنك لن تحيد أو تتخلى عما رسمت لنفسك من طريق..كتُبٌ لا تفارقك أينما رحلت وارتحلت وصمت مطبق لا يتكسر إلا حينما يأخذ بشغاف قلبك حديثنا عن الكتب والمطالعة، تروح تجرد قائمة الكتب التي استهوتك كثيرا، من كتب حسن البنا، إلى سيد قطب، إلى أبو الأعلى المودودي، إلى منير شفيق، إلى سعيد حوى، وكثيرا ما كنت تسألني عن كتاب تبحث عنه بلهفة لتقرأه بعنوان الفريضة الغائبة، كنت أُمازحك أني طلقت عالم الكتب طلاق الثلاث ولكني سأبحث لك عن هذا الكتاب، ولو أن عناوين الكتب هذه الأيام أصبحت متشابهة الحقيقة الغائبة، الفريضة الغائبة..تحملق في وجهي بنظرات مستهامة ويحتوينا الصمت من جديد بينما تيفلت تستعد لتطفئ أنوارها لتنام...

نورالدين بوصباع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى