عبد الفتاح المطلبي - العثور على بنجامين

عندما التقيت بالسيد أورويل مصادفةً في مقهى (حسن عجمي)* تَلبَّسني السرور والإنفعال فبدوت مرتجفا وأنا أصافحه، لم يكن معتاداً على كل هذه الحرارة في لندن مدينة الضباب الباردة خاصةً وإنه ما زال يعيش أجواءها التي تخيلها في روايته (1984) تأفف وقال:

- ماهذه الحرارة؟ كيف تطيقون هذا الجحيم؟

- تعودنا على ذلك فنحن أبناء (تموزي) لكننا أيضا نشعر بوطأتها هذه الأيام إذ بالغت الشمس في اقترابها!

وبعد إن تناول استكان الشاي الحار قال:

- الآن اكتشفت الحكمة في تناول الشاي الحار في هذا اللهيب التموزي

- كيف؟ قلت فردّ قائلاً

- الشعور بحرارة الشاي اللاذعة يجعل الجسم يتقبل ما دونها، أرى أنها طريقة ذكية في التعايش مع هذا اللهيب.

قلت (الذي يرى الموت يرضى بالسخونة) قهقه طويلاً وطلب استكانَ شايٍ آخر....

بعد ذلك شرح لي الظرف الذي أجبره على المجيء إلى بغداد في هذا الوقت ولفاقتي بتدبر اللغة الإنجليزية بالكاد فهمت منه مسألتين، فهمتُ أن بغداد صارت هذه الأيام أكثر قربا إلى الغرب وذلك واضح كما فهمت حيث أن الكثير من مواطنيه ومواطني دول أخرى يتجولون الآن في أزقة بغداد وحواريها بحرية تامة وكأنهم في بلدانهم والأمر الثاني أنه يبحث عن (بنجامين)* الذي فقده السيد (جونز)* بعد أحداث حقل الحيوان في (2003) الذي صادف دخول الأمريكيين إلى بغداد وهمس في أذني: الحقيقة أن الأمريكيين ضالعون في الأمر ولربما اصطحبوه معهم لشبهه الكبير بحمير المنطقة، ثم أشار إلى مصورٍ كان يجلسُ قبالته قائلاً:

- أعرفك بالسيد (روبي) رفيقي في الرحلة، اصطحبته لتصوير وتوثيق الأمر منذ البداية ثم أردف إثنا عشر عام على فقد (بنجامين) المسكين ولا ندري ماذا حل به!؟

تأثرتُ كثيرا بكلام السيد أورويل وإخلاصِه الشديد وبالخصوص حينما لمحتُ عينيه وقد اغرورقتا بالدموع وهو يذكر بنجامين ثم قال:

هل لك أن تساعدنا في العثور عليه، قلت: كيف؟ هل له علامة مميزة؟

- لا هو حمارٌ مألوفٌ جدا مثل كل الحمير ميزته الوحيدة أنه من مناضلي حقل السيد جونز، وأظنه يتكتم على ذلك خوفا من عقوبة محتملة من السيد جونز رغم أنه كان لا يؤيد مخططات (العجوز ميجر)* ذلك الخنزيرقائد الإنقلاب إلا بما يخص الذيل والذباب.

كانت خطتي بسيطة جدا تستند إلى حقيقة أنّ الحميرَ لا تكثر إلا في الضواحي وأحياء الفقراء فقلت لنذهب إلى هناك لعلنا نعثر له على أثر لكن كيف تميزه من كل هذه الحمير التي تكثر هناك،قال:

أنا أعرفه فأنا الذي صنعتهُ ووضعته في حقل السيد جونز منذ البداية، على ذلك اتفقنا وذهبنا نتجول في ضواحي بغداد.

اصطحبنا المصورالتلفزيوني (روبي) وعدة الشغل ورحنا نطوف بين الأزقة وفي الزوايا التي اعتزلت ضجيج بغداد المكتوم، كان الأمرُ في البدايةِ شاقا لكثرة الحمير في الضواحي وكدنا نيأس لولا تلك اللافتة الكبيرة ( أهلا بالضيوف الكرام) والأسهم التي تشير إلى بوابة كلية الطب البيطري فرأينا أن ندلف بكامرتنا التي تلفت الإنتباه وادعى السيد أورويل أننا وكالة أنباء أجنبية، وكان ذلك مألوفاً هذه الأيام في بغداد، كانت في البداية مجرد ملاحظات عابرة إلا أننا لاحظنا شيئا استثنائيا من قبيل حبال مكللة بزينة الأعياد وخيوط أسلكت فيها أعداد غفيرة من علم الجمهورية بحجمٍ واحد وجميعها ترف كجناح طير مذبوح وهذا بالحق كان فشلا ذريعا من منظمي الإحتفال، إذ كان عليهم أن يختاروا أعلاما من قماشٍ أكثر ليونة وأطول قليلا لكي تُحسن تلك الأعلامُ رفيفَها عندما تمرُّ عليها ريح الغرب التي أدمنت

هبوبها هذه الأيام ضاربةً عرض الحائط مواعيدَ المواسم ونواميسَ المناخ العالمي، وعندما حصلنا من السيدة (العميد) على رخصة تغطية الحفل دلفنا إلى الداخل عبر باب حصينٍ تُتَوّجُهُ صفوفٌ من الرماح العوالي التي تتجه بأسنتها إلى السماء دائما وكأنها تشير إلى عدو هناك، كانت حضرة العميد قد فشلت بإخفاء فرحها بالظهور المحتمل على شاشة قناة أجنبية وودت لو أنها قد حلت مكان الشخصية التي يُحتفى بها وراحت تتطاير كفراشة في داخل القاعة الفسيحة ذات النوافذ المطلة على الحديقة والخالية من الأثاث تقريبا رغم أنها كانت بدينةً بشكل ملفت، راح السيد أورويل يجمع تفاصيل ضرورية لكتابة التعليق المصاحب للتصوير وحين طلب معلومات عن الحفل والمحتفى به أشارت السيدة العميد إلى حمارٍ بثلاث قوائم في الحديقة وقد تحلّقَ حولَهُ فريقٌ من الطلبةِ يصورون معه الصور التذكارية، خفق قلب السيد أورويل وكاد يصرخ، الحمارُ كان لونُه شائعاً مثل كل حميرِ المنطقة العربية ليسَ مخططا كالزيبرا الأفريقي ولا أبيضَ مثل حمار (كييف) الأوكراني بل كان بلونٍ رمادي مائل إلى السواد قليلا تماما مثل (بنجامين) لكن الهيئة التنكرية التي غطت جسم الحمار جعلته يتريث قليلا، انشغل المصور بتصوير اللقطة عندما بالغت إحدى الطالبات الجميلات بطبع قبلة على خد الحمار الطويل الذي بدا وكأنه يتمنع رامشا بغنج واضح وراحت أخرى تعلق برَقَبتهِ الطويلة وسامَ الكلية من الدرجة الأولى وكان قبل ذلك قد أُلبسَ قميصاً أبيضَ وشُدّتْ على ياقته المُنشّاةِ ربطةُ عنق حمراء وأخرَ كان منشغلاً بتثبيت قبعة من النوع الفاخرتخللها ثقبان في موقع الأذنين الطويلتين فاستقرت على رأسه بشكل جميل، ثم استدعيت السيدة العميد ولفيف من الأساتذة والطلبة لألتقاط صورة تذكارية، كان السيد أورويل والمصور التلفزيوني (السيد روني) مشدوهين ومن عينيهما ينطلق السؤال بعد الآخر، ثم أشارت السيدة العميد إلى الحمار أنْ ستعرفون كل شيء حين يبدأ الحفل.

نُصِبَتِ المنصّة في حديقة الكلية واعتلتها السيدة العميد، قالت:

- تعلمون أيها السادة أننا اليوم نحتفل بتقاعد زميلنا (المارد) وهذا أسمٌ أطلقناه عليه لتحمله الفائق وصبره العجيب على جميع الحقن الأمريكية والبريطانية والأوروبية الأصلية التي تم تزويدنا بها منذ (2003) وتمت تجربتها بزرقها في لحمه وأشارت إلى الحمار، لقد أدى زميلنا منذ إثني عشرَ عاماً دوره وخدم كليتنا بكل تفان وإننا اليوم نرد الجميل بأن نتركه طليقا في حدائقِ كليتنا وله الحق أن يتجول فيها حرا ويأكل من العشب ما يشاء بكل حرية بعد أن تحمّل طيلة هذه المدة تلك الشروط التي فُرِضَتْ عليه أثناء تدريب طلبتنا الأعزاء، ولخدمته الطويلة في هذا المجال متحملا كل أخطاء المبتدئين ومغالاة المتقدمين لم يحصل منا إلا على ورمٍ في قائمتهِ اليمنى الأمامية مما اضطرنا إلى بترها ضارباً بذلك مثلاً لنكران الذات والبسالة وها هو قد تماثل إلى الشفاء وقد قرر مجلس الكلية أن يكافئه بتركيب ساقٍ صناعية صنعت خصيصا لهُ بمجهودات الطلاب الأوفياء.

صفق الجميع بحماس ثم أشارت السيدة العميد إلى أحدهم وتم تركيب الساق الصناعية للحمار وعلت موجة أخرى من التصفيق.

شعر (بنجامين) بساقه تستقرعلى الأرض بعد عذابٍ طويل قد تحمل فيه ثقل جسمه الضخم على ثلاث قوائم، رفع رأسه وغمغمَ بصوتٍ بين النهيق والرمرمة لم يُسمع مثله من قبل ولم يكن نهيقاً على أية حال لكنّ السيد أورويل قد فهمَ ما يقول فخنقته العبرة فقد كان (بنجامين) طوال حياته صبورا على عسف السيد (جونز)عندما كان في حقله وعلى الحقن التي كانت تخترق جلده ولحمه وأوردته في كلية الطب البيطري متأثرا بأراء (ميجرالعجوز)* التي مفادها (كل شيءٍ يهون مازال يملك ذيلاً يهش به الذباب فالحياة بلا ذيلٍ ولا ذباب بائسة)*، صرخ السيد أورويل بعد إن تأكد أن المُحتفى به لم يكن غير (بنجامين) العزيز، صرخَ وسط اندهاش الحضور: آه حبيبي بنجامين ثم احتضنه وراح يبكي وتتقاطر من عينيه دموع الفرح وهو يقول: آه يابنجامين أخيرا عثرتُ عليك.

عبدالفتاح المطلبي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مقهى في شارع الرشيد ببغداد
*جونز وميجر وبنجامين شخصيات من رواية جورج أرول حقل الحيوان

تعليقات

أعلى