بهاء المري - للصورة وجه آخر..

لم يَتخلَّ عنها جمالها وقد شارَفَتْ السِّتين، أرستقراطية من عائلة مَعروفة، كانوا لا ينادُونَها إلا بالملكة، اعتادَتْ قضاء جُلِّ أوقاتها في النادي الشَّهير حتى صارَت من معالمه.
فجأةً؛ تَصيرُ حديث النادي، تَردَّت في هاوية حُبِّ شاب من عُمْر أبنائها، ما الذي دهَاها؟! ولماذا هذا الشاب بالذات؛ الذي ظهر من وقتٍ قريبٍ في مَلعب "التنس" بصفته لاعبًا مُتمكنًا، هل جَذبها بُنيان جِسمه الرياضيّ ووسامته؟
هل جُنَّت لتُفكِّر في الزواج منه، هل ركبتْ تلك الموجة التي ضربَتْ أوساط الشباب، ارتفاع الأسعار وبطالة أكثرهم حدَى بهم للزواج من مُسنَّاتٍ يَملكن المال والسَّكنْ، وإذا كانت تُفكر في مثل هذا، فهل هو يَقبل ولم يَزل في ريْعان الشباب؟ أمْ أنهُ من أولئك المتسلِّقين الذين يبيعُون فُحولتهم لقاء مال ولو كان في صورة زواج غير مُتكافئ من أية ناحية؟ ذلك ما كانت تتهامَس به النسْوة من أعضاء النادي.
لم تعبأ بغمزهِن ولمزهِن ولا بنظراتهن المريبة، ولا بما كانت تلاحظه من مَصمَصة شفاهِهن.
منذ لمَحَتْهُ في النادي سعَتْ إليه، وجدَتْ في نفسها رغبةً جامحة تدفعُها للاقتراب منه، تنتظرهُ عند باب الدخول، ترافقهُ في التحركات بالداخل أينما ذَهب، تَحضر "ماتشات" التدريب الخاصة به، تجلس في المكان المخصَّص للمتفرِّجين حتى ينتهي، لا تنصرف إلا بعد أن يذهب، أو تصطحبه في سيارتها عند الانصراف.
تَقرَّبت منهُ أكثر، تَوالَت اللقاءات عَيانًا بيانًا أمام صديقاتها وأقاربها، وإذا غابَ لا تَتورَّع عن السؤال عنه، لم تَعبأ بما يُقال؛ وما يُمكن أنْ يُقال، وربما لم يخطر ببالها ولم تفكر في تبعات سلوكها.
تَعلَّق بها الشاب كما تعلَّقَتْ به، نَسِيَ أنَّ علاقته بالنادي مُجرد علاقة لاعَبْ تِنس استعان به النادي من دون أن يكون عُضوًا فيه، صار يَتلهَّف على الذهاب إليه، لا من أجل اللعبة؛ ولكن من أجله.
تَطوَّر الأمرُ مما زاد من فُضول الآخرين ووسَّع من دائرة الثرثرة حولها، يأتيان معًا في سيارتها الفارهة؛ ولا يُغادران إلا معًا؛ لاحَظ الآخرون شيئًا جديدًا لم يَعهدوه عليها من قبل، ترتدي الملابس الرياضية أحيانًا؛ وتُلاعبهُ كرة المضرب، يا لَلْجُنونِ الذى ضربَ عقل هذه المتصابية .. هكذا كانوا يَسْتنتجون من مُتابَعتها.
نَسِيَتْ نفسها ذات يوم بعد أنْ فاز على مُنافسه في مسابقة التِّنس، راح يجري نحوها وهي وسط المدرجَّات بعد إعلان فوزه، لمحَتْهُ قادمًا متهللاً على هذه الصورة، قفَزَت من مَوقعها، فوجِئ الحُضور بها تتلقَّفهُ بين أحضانها وتمطرهُ وابلاً من القُبلاتِ؛ غير مكترثةٍ بمَن حولها، وكلما حاول إفلات نفسه منها، كانت تضمُّه أكثر وكأنها تمنعه.
سرَى أمر هذا الحدَث في النادي سَريان النار في الهشيم وتَجاوَز أمر تَناقل النَّميمة إلى حدِّ أن بَلغَ أُمَّ الشاب.
تُهرع أمّهُ إلى النادي ونار الغَيرة تَنهش في قلبها، كان ابنها يُجالس الملكة في البهو الكبير وقد أمسَكتْ بيده وسطَ الحُشود.
اقتربَتْ منهما، أمسَكتْ كوب العصير وألقتْ به في وجها، وراحت تمطرها بوابل من الشتائم:
- مالَكِ وولدي أيتها العجوز المتصابية؟ ألا تَسْتحين؟ إنه من عُمْر أولادك، هل تريدينَ له دَفْن حياته مع كركوبة مثلك؟
تنتفض واقفة، تنظر من حولها، تترنح في وقفتها، تَشهق شهقاتٍ متتابعة، تسقط على الأرض مَغشيًا عليها.
هَرَجٌ ومَرَجٌ نال من رُوَّاد البهْو، أمسَكَ طبيب بساعدها، جَسًّ نبضها، قرَّبَ أذنه من أنفاسها، ضغط براحتيه المفتوحتين على صدرها، صاح أحد الحاضرين:
- اُطلبوا الإسعاف.
أردفَ الطبيب بعبارة:
- "لا داعي .. البقاء لله".
النساءُ الحاضرات يَطرحْنَ عليها غِطاءً من أغطية المناضد، الشاب يَنهار، يَصرخ بوجه أمّه:
- قتَلتِها أيتها القاسية، ما الذي جنَتْهُ عليكِ، إنها أمِّي التي شَعرتُ بحنانها، ولسْتِ أنتِ التي تَركتِني لزوجة أبي القاسية، وذَهبْتِ لتتزوجي.
بعض مُتعلقاتها كانت قد سَقطَتْ من حقيبة يدها، مالَ أرضًا ودُموعه تَنهمر ليَجمعُها ويَرفعها على المنضدة، تلمح أُمّهُ صورة له معها وهي تميل فيها على كتفه، تمسكُ بها مندهشة، يفغر فاها، تحملق فيه، تنظر إلى الصورة مرة، وإليه مرة أخرى.
تُلهبه نظراتها، يَثور فيها من جدبد:
- أنتِ ظالمة، مُتجنِّية، ليسَت صورتي، هي صورة ابنها الذي يُشبهني وماتَ منذ عام في حادث سيارة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى