وداد معروف - لكنني أنثى.. قصة قصيرة

دخلت مكتبنا يغشاها سحر الجمال وطلاوته ، طلتها آسرة ، نظرة عينيها الجميلتين ، رأيت حسنهما في أعين الرجال حولي ، وقفَتْ على الباب وألقت السلام ، تنافس إيهاب ورامي في الإسراع بالرد ، بصوت رخيم هامس قالت:
أنا الموظفة الجديدة ، وقد تم تكليفي أن أعمل بهذا القسم . وقف إيهاب وأشار إلى مكتب بجانبه خلا بعد إحالة زميلنا إلى التقاعد قائلا لها:
تفضلي هنا سيضيئ هذا المكتب بجلوسك عليه ،
انبرى رامي قائلا:
لا والله : هذا مكتبي سأتركه لكِ ، ودعي لي هذا المكتب القديم. وكعادة الجميلات ألا يجهدن أنفسهن في التقرب لأحد، فالجمال سفير فوق العادة، خَبَرتُهن كثيرا فقد مر على وجودي في هذه المؤسسة أكثرُ من عشرين عاماً وأعرف ما سيكون من أمر هذه الحسناء إن بدرت منها إشارة أنها أرهقت من العمل سيهرع الرجال ويخففوه عنها وربما أضافوه لي فيكفيهم أن يطالعوا هذا الوجه الجميل ليحفزهم على العمل ، جلستُ على مكتب رامي.. والتفتُّ لها محيية ومرحبة بوجودها بيننا، سألتني وقد علت الدهشة أهداب عينيها:
لماذا أعطيتِ ظهرك للباب واستقبلتِ النافذة بوجهكِ، كانت نظرة إيهاب ورامي لبعضهما تستر كلاما أعرف أنه لو أفرَجَت عنه شفاهُهما لجرحني ، قلت لها:
كما ترين أنا منتقبة وهذا الوضع يساعدني على رفع النقاب والتنفس بحرية، هزت رأسها مقرة بما أقول، أحاط بها رامي وإيهاب ليعلماها أساسيات العمل الجديد، و من آن لآخر يضع كل منهما عبارة يفخر فيها بموقعه ومهارته وتميزه بين زملائه، وهي تسمع بهدوء يتسم بقلة الاكتراث، تشعثت خصلات من شعرها الأصفر فغطت عينيها الزرقاوين كزرقة الفجر إذا شقشق فاكتمل بدرها، ابتسمتُ لهذا المنظر الجميل ابتسامة شاحبة، وعاودني الشعور القديم لا بل لم يزايلني أبدا، هذه المشاعر التي وضعتها في سرداب عميق مظلم كوجهي وأغلقته بإحكام يتحول هذا السرداب أحيانا لغرفة بلا سقف ولا نوافذ فتلفحني الشمس المحرقة وتمصني العواصف العاتية، حين تتلبد الغيوم بالغيوم يصرخ فيَّ هذا السؤال :
لماذا من بين كل تلك الجميلات والبيضاوات حملت فوق أكتافي هذا الوجه الدميم ؟ كرهت النظر في المرآة حتى لا تطل أمامي هذه البشرة الطينية الكثيفة وتلك العيون الجاحظة المتكورة وقد أحاطها سواد أشدّ ، ما هذا الأنف الأفطس؟ هذه الشفاه الزرقاء كرهت أن أبتسم حتى لا تظهر أسناني التي تقترب من حبات الفول الكبيرة، ولذا كان قراري بارتداء النقاب قرارا صائبا، فما ذنب الناس أن يطالعوا هذا القبح كما لا أريد أن أسيء لزملائي الطيبين برؤية هذه الدمامة يوميا ، أفاقت من استغراقها علي صوت إيهاب ينهرها علي أنها لم تقدم التحية للزميلة الجديدة.. منى :
هيا أَخرجي عِدة الشاي وقدمي لها كوبا "على مية بيضة" كبدايتها معنا، أخرج رامي من درجه علبة البسكويت, ابتسمت لها غادة في حياء وقالت:
لولا أنهما أقسما عليّ ألا أقوم لأعددته لكم جميعاً،
رددت على ابتسامتها بابتسامة وقلت:
لا عليكِ يا غادة، هو أول يوم فقط ثم نتركك تعدين لنا الشاي بعدها، مسحت بعينيها المكاتب وتوقفت أمام لوحة وضعتها منى فوق مكتبها واضح أنها قد خطتها بيدها لعفوية الخط وبساطته، قرأَتْها بصوت عالٍ " الفقد أن تنتظر شيئا لا يعود وتحلم بأحلام لا تنتمي إليك" ثم قالت :
يا لها من حكمة عميقة جدا .

لم يمض إلا أسبوع واحد فقط حتي سمعنا عن خطبة غادة لابن المدير العام للمؤسسة، ونقلت من مكتبنا إلى مكتب سكرتارية المدير العام حيث الأسرار وشبكة العلاقات المهمة برجال السياسة والأعمال في محافظتنا، ويوما بعد يوم نجد اسمها في الجوقة التي ستصحب المدير العام إلي المؤتمرات والزيارات المفاجئة لفروع المؤسسة، ومن خلال هواية رامي وإيهاب في تسّقط الأخبار عرفت قيمة الشبكة التي قدمت لها وتفاصيل حفل الخطوبة وموقع شقة العروسين، وأين سيقضيان شهر العسل حيث اختارت غادة أن يكون في تركيا لترى الأماكن الجميلة التي صورت فيها تلك المسلسلات التي امتلأت بها القنوات الفضائية، اسمع هذا وأسائل نفسي ألست أنا أيضا أنثى؟ اقتربت من الأربعين .. نعم، ولكن نفسي تهفو لما تهفو له كل أنثى، بيتا وزوجا وطفلا، أمشي أمام الناس متأبطة ذراعه، أسند رأسي على كتفه في السيارة، أجلس وسط زميلاتي وصديقاتي وقريباتي وأقول قال زوجي، اشترى لي زوجي، رفض زوجي، أقسم عليّ زوجي.
تبا لكما أيها الرجلان، ألا تشعران بي؟ ألا تكفان عن الثرثرة؟ ولكن كيف تشعران بما أشعر؟ فحينما أردتما الزواج دققتما الباب علي أنثاكما وكان لكما ما أردتما، لكني أنا الأنثى التي لو ظلت مائة عام لن تجرؤ على طلب يد الرجل أبداً، وإن حدث فستهزمني الأعراف والتقاليد لا محالة، هذا إذا كنت فتاةً عادية، فكيف وأنا بمثل هذه الدمامة وملامحي التي لا علاقة لها بالأنوثة، الأنوثة ....... آه .... كل كياني ممتلئ بخصائصها وضعفها واحتياجها، تمنيت أن الله حينما خلقني هكذا نزع مني هذا الضعف والاحتياج حتى لا أعيش البؤس مرتين، مرت غادة من أمامي وقد سبقها عطرها الأخاذ، توقَّفتْ أمام مكتبنا تعدِّل وضع الأوراق في يدها، تأملتها، كل ما فيها جميل، وجه وقوام وأناقة، كانت تلبس بنطالا أسودا تعلوه بلوزة بيضاء من الدانتيل، وضعت لمسات خفيفة من الميك اب، جعلت من شفتيها كرزتين، وكان الكحل الأسود كشطين حول عينيها الزرقاوين , نقَّلت خطواتها برشاقة وخفة، عشت أحلم بهذا الوجه الجميل وهذا القوام الرشيق ونظرات الإعجاب تغشاني، وعبارات الغزل تمطرني، يا لتلك الفتيات الكاذبات حينما يحكين عن المعاكسات التي يتعرضن لها، أكاد أنفجر فيهن حينما يعلقن عليها باستياء، أعرف أنهن في غاية السعادة وأن حكيهن نوع من المباهاة، والتوثيق لجمالهن، لم يجربن نظرات النفور بل الشفقة التي كنت أراها في أعين الناس حتى حماني منها النقاب وسترني، هل أنسى أول يوم قدمت فيه إلى هذه المؤسسة وقد امتلأ قلبي بالسعادة أن أخيرا وفقت لعمل؟، وقفت أمام المدير العام وبجرأة وعفوية قدمت أوراقي، توقف قلمه عن التوقيع و رفع عينيه ينظر إلي ثم وضعهما في الأوراق، وقال وهو ممتعض:
ربما لن يعجبك العمل هنا فالدوام عندنا طويل والعمل مرهق، لو أحببت أن أساعدك في الانتقال لمكان آخر أفعل الآن،
وكأنه أخرج عصى التحدي المسندة بداخلي فقلت له:
بل يسعدني العمل معكم ولو كان مرهقا، فوقّع وهو يزوم، تفوقت في عملي على زملائي وأجدته لكن مهما بلغت إجادتي لم أنل حظوة من أي من المديرين الذين تعاقبوا على هذه المؤسسة، وهكذا كل من تفتقد إلي الوسامة.
استدعت شئون العاملين إيهاب لكونه رئيس القسم، عاد ومعه ورقة ناولها لرامي وتهامسا، شعرت أن هذه الورقة لها علاقة بي، ربما الترقية التي انتظرتها ، وهما يتهامسان للاتفاق على ( حلاوة الترقية التي وعدتهما بها ) أو لعلها الدورة التدريبية التي أدرج اسمي بها، سألته وكلي تشوف لأعرف ( أستاذ إيهاب: ما هذه الورقة؟ ) ناولها لي بنظرة حيادية لم أفهم منها شيئا، قرأتُ... منشور معمم على كافة الإدارات يمنع منعا باتا ارتداء النقاب لموظفات المؤسسة في فترة العمل .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى