د. جورج سلوم - صندوق انتخابي

كان زميلاً لي قديماً من أيام الجامعة وانقطعْتُ عنه بلا سببٍ واضح ، ولا أدري أكانت القطيعة مني أو منه ؟

ما كنت أستسيغ كلامه المُعارض لكلّ مقامٍ ومقال ..يعترض على الأساتذة وينتقدهم ، ويعترض على نتائج امتحاناته ..ويخالف كلّ رأيٍ أجمَعَ عليه اثنان أو أكثر ..وهو عكس كل اتجاه سلّم به القوم تسليماً فاتجاه دوران عقارب الساعة هو ضدّه ، وهو أيضاً ضدُّ الضدّ فلو عاكستَ شيئاً سيقف معه ضدّك .

وينتقد السّاسة الحاليين والقادمين والغابرين حتى ما قبل التاريخ ، وفلاسفة الإغريق وسفن الفينيق ، وجدوى المطر واتجاه الريح وأمواج البحر الواردة على الشاطئ ..و يدّعي أن أمواج البحر تكرهه إذ أنها تقفل راجعة عندما تراه أو يضمحلّ زخمها فقاقيعاً وزبداً .

ويُسَبْسِبْ ..ويشتم العصافير المغرّدة والخرساء ، ويشتم حتى ذبابات وجهه ..

ولو مرّت زميلةٌ في الجامعة أمامَنا ، وأبدينا إعجاباً بصوتٍ هامس ومسموع بالنسبة لها كنوع من التحرّش المحبّب ..كان يتدخّل ليرفع صوته ليقرّعها بكلماتٍ يندى لها الجبين ..لذا كان التهرّب من رفقته أفضل وأسلم .

كان يعترض أيضاً على الاكتشافات الطبية الحديثة ويعتبرها بدعةً وتجارة دوائية مؤقّتة سيثبُت فشلها ..ونوعاً من عصف العقول ..أو غزواً ثقافياً ناعماً ..وأنّ الطب الحديث – مهما هللوا له – لم يقدّم شيئاً للإنسان سوى إطالة العمر لبعض المسنين أو العجائز ..إنه نوع من مقاومة القدَر أو تحنيط البشر لجثث نافقة يُعاد مؤقّتاً إحياؤها ويجب مساعدتها لتتحرّك أو لتتنفس .

وسمعتُ بعدها أنه تخرّج من الجامعة متأخّراً عن الرّكب ، ولم يتابع الدراسة لنيل اختصاصٍ ما في الطب ..وقيل أنه سافر إلى بلدٍ ما للعمل .. وقيل أنه طلّق زوجتيه الاثنتين بطريقة التسلسل ولم ينجب ..وقيل أنه أصبح داعية دينية ويمارس طبّاً شعبياً بلا مقابل وأنه يعمل لوجه الله ..أو يتقاضى أجوراً رمزيّة ممّن أراد الدفع في صندوق يضعه في غرفة الانتظار بعيادته .. وأنت وذمّتك وقدرتك تضع به ما أمكنك وعظّم الله أجرك ،وإن مررت بذلك الصندوق مروراً فقط فسعيك مشكور .. ومحتوى ذلك الصندوق سيذهب للأعمال الخيرية التي لم يسأله أحدٌ عن تفاصيلها .



التقيتُه بالصدفة في نقابة الأطباء حيث كنا ندفع رسماً سنوياً ..

قال لي بعد أن تصافحنا وتعانقنا وقبّلنا الذقون والمناكب وطبطبنا على الأكتاف والأرداف :

-لو يأخذون ذلك المبلغ السنوي عبر البريد لكان أفضل ..لا أريد أن أراجع النقابة لأنني قد أصادف طبيباً ما هنا ولا أحبّ ذلك ..سيسألك الزميل كيف حالك ؟ وهو يقصد كم سرقت حتى الآن من جيوب المرضى؟..عملُهم بعيد عن الإنسانية ..لا أقصدك أنت فأنت مُستثنى بإلا ..

وعرفت أنّ هذا الاستثناء سيقوله لأيّ زميلٍ يواجهه ..وما تركته حتى أخذت رقم هاتفه ومكان عمله فأعطاني إيّاهما على مضض ..ووعدته بأنني سأزوره حتماً رغم أنه قال لي مودّعاً دعنا نشتاق إليك ..وفهمتها لاحقاً بأنْ دعنا لا نراك !

عيادتُه كانت في طرف المدينة العشوائيّ ، وبابُها مفتوحٌ وما بها أحد إلا من رجلٍ مسنّ ظننته مريضاً ينتظر لكنه قال إنه ناطور العيادة .. وغرفة الانتظار ببضعة مقاعد يجب أن تمسح الغبار من تحتك لتجلس على أحدها .

وبابُ مكتبه الذي يودي لغرفة المعاينة مغلق ..

قال لي :

-الدكتور ليس هنا ، ويقوم الآن بجولة على مرضاه في بيوتهم ..الله يجزيه الخير .. فهو لا يتقاضى قرشاً لقاء خدماته .

لن تملّ الجلوس لأنّ جدرانَه معرضٌ فسيفسائيّ من لوحات طبية تشريحية وقوائم للحمية وجداول دوائية وآيات قرآنية وقصاصات جرائدية ملصَقة فيها صورة الطبيب ومقالات عن أعماله الخيرية ، أما شهادة الطب وترخيص العمل فمعلّقان في زاوية خجولة .

تذكّرت بعض فلسفاته عندما كنا طلاباً في كلية الطب ، وكان يقول أنّ شهادة الطب هي شهادة محو الأمية لتعرف ألف باء المهنة فقط ..أما صنعة الطب فستتعلّمها لوحدك بين المرضى بعد التخرّج حيث ستصارع الأمراض لوحدك .. كشهادة قيادة السيارة في بلدنا يعلّمونك فيها كيف تدير المحرّك فقط ، أمّا قيادة السيارة فستتعلّمها لوحدك بالوقاية من المشاة ومعالجة السيارات المتحرّكة بالمهدّئات ..وتشتم السائق الذي يمرّ بك قبل أن يشتمك وتشتم من أعطاه الشهادة ..مثلما يشتم المرضى من أعطاك شهادة الطبّ.

لاحظت وجود صندوق كبير بلاستيكيّ حليبي لكنّه يشفّ عن محتواه ..كان في قاعه بعض الأوراق النقدية ..اقتربت منه لأتفحّصه فقال الرجل :

-صندوق التبرّعات إن أردت أن تعمل خيراً ..لكن لا تضع فيه شيئاً إلا بعد المعاينة ..أنت وذمّتك

شعرت أنّ هذا الرجل يحرس الصندوق أكثر من حراسته للعيادة ..قلت :

-متى يأتي الطبيب ؟

-معك هاتف كما أظن ..اتصل به وهذا رقمه الجوال

عندما جاء الزميل لم يكن سعيداً بوجودي مع أنه حاول استظهار سعادته .. شربنا الشاي بالنعناع وهو يصفه كثيراً للمرضى كما يبدو ..وأضاف أعشاباً خضراء أخرى فوق كأسه وظلت أوراقها طافية ..قال:

-يظنّ البعض أنّ العيادة تعني أن يزورك المريض ..والحقيقة أن العيادة تعني أن تعود مرضاك في بيوتهم ..وعيادة المرضى نوعٌ من العبادة ..لذا لا أهتمّ بهذا المكان المُسمّى عيادة .

عيادتي هذه مُقتَطعة من بيتي وأنا أسكن هنا لوحدي ..هي عالمي الصغير وصومعتي .

-طيّب ..ألا تملّ وحدتك وتوحّدك وتطرّفك في هذه النقطة المتطرّفة من المدينة ؟

لم يُجِبْ ، وسألني الكثير ليستطلع أخباري ولم يترك لي مجالاً لأسأله شيئاً إذ أنه يجيب على السؤال بسؤال ..وعندما خرجت ، وقفنا بجانب الصندوق ..فقال ساخراً:

-إنه صندوقٌ انتخابيّ استعرته من البلدية ، وسأعيده لهم في الانتخابات القادمة ..أنت وذمّتك إن أردت أن تنتخبني بورقة ما من جيبك ..

قلت :

-نعم ..نعم ..سأنتخبك طبعاً بما يدعم برنامجك الخيريّ .

وفعلاً أغمدت يدي في جيب سترتي حيث محفظتي .. وتردّدت ..ثم في جيب بنطالي حيث الفكة المعدنية ، وخشخشت وتلاعبت بها ..للمرة الأولى شعرت أنني أعرف نوع القطعة النقدية بفركها بين أصابعي كما يفعل الأعمى ..ثم أخرجتها فارغة ..وقلت مبتسماً:

-لن أدلي بصوتي الآن .

*************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى