د. جورج سلوم - الثورة الحمراء

يحتفظ بدفتر صغير في محفظته فيه مواعيده المستقبلية واستحقاقاته المبرمَجة ، ويشطب ما فات منها وما تمَّ تجاوزه .

وتلك المهمّات المُخَطَّط لها يعطيها أرقاماً حسب أهمّيتها وضرورتها وأولويّاتها ، وبعضها ممّا كان يتوجّس منه يكتب بجانبه عبارة (بإذن الله) عسى أن يتمّ الأمر بمشيئة الله ، فأنا أريد وأنت تريد والله يفعل ما يريد ..هكذا يقول . وإن خُيّر في أمرٍ ما يتريّث في اختياراته ، عسى أن يأتيه إلهامٌ ما أو بصيصُ نورٍ من آخر النفق ، لأنّ الخير فيما اختاره الله ..ذاك هو ديدَنه !

وعند المساء وقبل خلوده للنوم يكون مبلغ سعادته وارتياحه بمقدار حصاده النهاريّ ممّا أنجزه أو تجاوزه من مهام ..ويغمض العين شكوراً حامداً للذي لا يُحمَد على مكروهٍ سواه.

ويصلّي دائماً ، لتتوافق طموحاته وخياراته مع برمجة الخالق لمسيرته الحياتية ، وأحياناً يحدث انطباق وتطابق فريد بين الإرادتين السّماوية والشخصيّة ، فيشكر الله وكأنه يستجيب لصلواته ، وكأنه يسير في هديه وهداه ، وتزداد ثقته بنفسه كمَن يردّد دائماً أنه ( ماشٍ بنور الله ) .

ولا يعتبر فشلاً أو تعثّراً في أمر إلا نوعاً من التجربة والاختبار السماوي لصبره وإيمانه ، واثقاً أنّ الفرجَ قريب ولو طال الضيق في المضيق .

ذاك الدفتر الصغير ، بيت أسراره كان يخشى أن يقعَ بيد أحد معارفه فيغدو مكشوفاً ، وخاصة تلك الصفحة التي يعنوِنها باسم القائمة السوداء ، وفيها أسماء من يجب تحاشيهم أو محاباتهم أو مداراتهم وتدوير زواياهم الحادة ، إذ لا قِبَل له في مواجهتهم أو تحدّيهم ، كالسيارات الشاحنة الثقيلة يحيد عنها ويفسح لها الطريق ، فالاصطدام بها دونه خسائر وأثمان باهظة ، والعين لا تقاوم المخرز .

تلك القائمة السوداء في دفتره الصغير صارت تكبُر وتتعاظم ، وقلَبَ الصفحة عن عديد أسمائها الذين تكاثروا في محيطه ، وأعطاهم أرقاماً لتبيان أهمية الابتعاد عنهم وضرورة تناسي تصرّفاتهم التي كثيراً ما كانت تغمز من قناته وتقرص أذنه وتدمي قلبه ، ووصمهم برموز ونعوت وتشابيه تصف معدنهم الخبيث ، فذاك الثعلب وتلك الأفعى وذاك المتوحّش ، ولا وجود للحيوانات الأليفة في قائمته السوداء ..ومنهم من خفّف شأفته بعد أن كسر الزمن شوكته ، فأصبح حشرة في ذيل القائمة كالدبور يداويه بطرده والصرصور يدهسه في مسيرته ، وفكر أن يصطنع لتلك الحشرات قائمة أيضاً لكن لا لون لها كأسماء تمر به مروراً .

ويستغفر ربه طبعاً من أفكار السوء تلك ، ويؤمن أنّ بعض الظن إثم .

قد تكون هواجس وإرهاصات تلك الملاحظات التي يضيفها على صفحات دفتره ، وقد يكتشف أحياناً خطأ اعتقاداته ، إذ يُفرَض عليه النوم بجانب الأفعى فلا تلدغه ، أو يأمن جانب الحمل الوديع فينقلب ذئباً .

لذا افتتح صفحة جديدة بعنوان القائمة الرمادية ، من أجل أولئك المتلوّنين والمتقلّبين ومتعدّدي الأوجه والوجوه ، وهكذا نزلت الحرباء وحيّة التبن في مفرداته ، وظل الكلب موجوداً فقد ينقلب فجأة من وفيّ إلى مسعور.

صار مولعاً ببرامج الحيوانات التلفزيونية تزيد ثقافته ، ويسقط من تصرّفاتها الغريزية إسقاطات تناسب كل من يحيط به ، وصار يخاف أو يقلق من القدر الذي حكم على الظبي أن يسقط حكماً بفكّي الأسد بلا رحمة ، ثم تأتيه الضباع تنهشه ، والنسور تسترق مزقات لحمه . لكنه لم يجرؤ على التمرّد على قانون الغاب ، مع أنه يؤمن بأن ثورة الخراف والظباء كافية لإسقاط ذلك القانون الذي فرضته الضواري .

هو ينشد السلام مع نفسه أولاً ومع محيطه ثانياً ..ومن خاصمك يريد ثوبك فاترك له الرداء أيضاً ، لكنه لم يصل بعد إلى مرحلة (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر أيضاً )!

.. وهو في قرارة نفسه يطمح لأن يُوسِع ضاربيه ومنتقديه ضرباً ، ويحلم بأن يطبّق قاعدة العين بالعين ، لا بل بالعينين الاثنتين والسن بكلّ الأسنان ، لكن ذلك قد يفتح عراكاً وسجالاً لا مندوحة إلا بالانسحاب منه رافعاً رايته البيضاء أو ذليلاً مثخناً بجراحه .

-لماذا الصراع والتكالب على الأرزاق ؟ ..يقولها ويكتبها

لماذا ؟...والرب مقسّمها بعدله وحكمته ، وما كل فوق البسيطة كافياً فإذا قنعت فكلّ شيءٍ كافٍ .

والكتاب الذي أعجبك ، هنالك نسخٌ أخرى منه مطبوعة وبنفس الثمن ،لا بل إن تأخرت في شرائه قد تربح بانتظارك نسخة الطبعة الثانية التي تكون مدققة ومصوَّبة وأقلّ سعراً . وكذا السيارة الجديدة ، دع غيرك يقتنيها قبلك ، فتظهر أمراضها الكامنة ، وتشتريها منه رخيصة ولو كانت مستعملة قليلاً ، ولن تشوبها شائبة إن شممت رائحة عرق مالكها السابق تفوح من مقودها .

والبيت الذي استعلى منافسك سقفه ليدوس عليك ، سيأتي لاحقاً من يسكن فوق معتليك ويدوس عليه ، ومهما اعتلى فلن تصل شجرة إلى علوّ باريها .

فلا داعي للاستعلاء والكبر ، فالله أكبر منهم جميعاً .

لذا مال لتجاهل قائمتيه السوداء والرمادية بطريقة التناسي والسلوّ عن أفرادهما بطريقة دع الخلق للخالق ..

ثم افتتح صفحة ثالثة بدفتره الصغير سمّاها القائمة الخضراء ، وأنزل فيها جميلي الوجه والنفس والتصرّفات ، واهتم بالانخراط في تلك القائمة بطريقة كن جميلاً ترى الوجود جميلا.

وأينعت صفحته الخضراء بالأسماء التي يكفي مرور ناظره عليها ليحسَّ بالأمان والصدق والود والإخلاص والطمأنينة ، فيميل للتبحّر والخوض في غمارها ، فطوبى لأنقياء القلب لأنهم يرثون الأرض . وكذا الأسماء من جميلات الوجه والقد ، ورقيقات المعشر يذيّل أسماءهن عبق اللطف وشذا الوداعة ورقيّ الدماثة ..نزلن أيضاً في قائمته الخضراء .

إلا واحدة منهن يثير مروره فوقها أحاسيس غريبة متداخلة مختلطة .

فهي بجمالها ودِعتها يليق لها تصدّر القائمة الخضراء ، وأما بتجاهلها له وكبريائها المحتجب وإشارات الاستفهام والريبة التي تغشّي شخصيتها ستتبوّأ قائمته الرمادية .

والويل لها ..إذ رآها يوماً تتضاحك لواحدٍ من قائمته السوداء ،ويهمس في أذنها فتميل برأسها إليه ، يومها وضع حول اسمها إطاراً للتمييز ، وبجرّة قلم رسم سهماً ينقلها إلى القائمة السوداء المحظورة ، إنها منهم ..سوداء ولا يُؤمَن جانبها ، فلنبتعد عنها ، لا بل يتوجّب التعتيم عليها ..

لكن عينه كانت تجبره على استراق النظر إليها !

جميلة .. ما أجملها عندما تكون لوحدها كتمثالٍ فينوسيّ صامت وساحر !.. فيميل للخشوع أمام براءته وطهره العاري .. أواه كيف تنقلب تلك الفينوس الفاتنة إلى آلهة الخصب الماجن عندما يرافقها ذلك الشخص الأسود القائمة ، فيتمنى صاحبنا لو يغرس سكيناً في فخذها المكشوف أو صدرها التي اتسعت فرجته ، أو يطلق النار على ذلك الطفيلي الذي يتسلق سيقانها ، وقد يكون يمتصّ شهدها ..من يدري ؟ وما أدراك بما يفعلان خلف الظلال المستورة ؟

-لكن ما لي ولها ؟..هكذا قال لنفسه

أنسيت مبادئك ولوائحك المرعيّة وقوائمك الملوّنة وقوانينك ودساتيرك ؟.. أنسيت زهدك وعفّة نفسك وقناعتك بقسمتك ؟..أوَتتناسى كيف أن القناعة كنز لا يفنى ؟..وأن حظك في الحياة سيلقيه لك القادر على طبق من ذهب ؟.. وبلا تعب ..ولا مزاحمة للخلق المتكالبين على اقتسام الذبائح .

دعك منها ..ومن متسلّقها الذي لا قدرة لك على مجابهته .

إنه ..وإنها معه ..في قائمتك السوداء التي آليت إلا أن تتحاشاها .

ألا تذكر الكتاب الذي استحليته وكم من النسخ المطابقة موجودة منه ؟..عليك بنسخة مشابهة لها ..ويخلق من الشبه أربعين !

احذفها من قوائمك ..أو اعتبرها غير موجودة ، كامرأة من بلاد الواق واق ، لا حكم لك عليها ولا رقابة على سلوكها .

وانتق من قائمتك الخضراء وردة حمراء فوّاحة العبير تقطفها بلا عناء ، واترك تلك الوردة السوداء أو الرمادية ، فدونها سياج مشوك وقد يكون مشحوناً بالكهرباء الساكنة تصعقك .

ويجيب في خضم حيرته ، وبعد أن رسم دوائر عديدة حول اسمها حتى صار كالدريئة :

-تلك المرأة لي فيها هوىً ، وما عدت قادراً على تصنيفها في قوائمي ، فأراها تتصدّر الخضراء منها والرمادية والسوداء ..لا ليست بلا لون ولا يمكنني تجاهلها يا دفتري الصغير ..إنها الوحيدة التي ستتربّع في قائمتي الحمراء الجديدة ، كأولى أولوياتي وكبيرة الكبائر والصغائر من مهماتي .

لا ليست كالكتاب المنسوخ بآلاف النسخ والمنشور والمتاح للجميع ، إنها كتابي المقدّس الذي لن أسمح بالشرك فيه ، ولن أسمح للغرباء أن يمسوه أو يدنسوه ..أو يحرقوه .إنها حرمتي وقدس أقداسي .

لا ليست كالسيارة التي سأقتنيها مستعملة ، وأرضى للغير أن يجرّبها قبلي فلا ينفرني منها عرقه الذي لوّث مقودها .

لا ليست كالخان ، يبيت فيه من هم قبلي وأنام بعدهم على وسادة معروكة ومعجونة بعرقهم .

لا ..هذه الجوهرة لي وحدي ، خُلِقَت لي ، وأنا الذي سيغوص لينتشلها من الأعماق ، وأنا الذي سيثقبها ، وليس ثاقب اللؤلؤ الأسود الذي ثقب كل لآلئ الوطن وترك الجميع يتحلّون بها مثقوبة ومعلّقة .

وانتهت تلك المتاهة أخيراً بأن مزّق صاحبنا دفتره العزيز ، وبعثر أوراقه ، وخلط بين قوائمه المصنفة والمرتبة ، فاختلط سوادها برماديتها وضاع اخضرارها ،وامتقعت تلك الأوراق بمزيج من الاحمرار الدموي المسيطر.

وتحول القلم الصامت على الأوراق إلى كلمات علت حتى غدت زئيراً ، وأعلن ذلك التصنيف المتخفّي من السرّ إلى الجهر، فلا خوف من أحد مهما كان لونه ، والأحمر قادر على شطب الجميع وتجريحهم ..ولو جرحت زنجياً أو أبيض أو أصفر سترى اللون الأحمر يضرّجه.

وقال عن الأشخاص السود بأنه يجب تبييضهم ، والرماديون والزئبقيون يجب تحديد مواقفهم ، فمن لم يكن معنا كان علينا ، وطلب إلى الأفراد الخضر الوادعين أن يخرجوا عن صمتهم وينقّوا بيادرهم ويجتثوا طفيلياتهم بدءاً من الجذور ، فتشابكت الأغصان الخضر الطرية كأعواد أقوى وأصلب حتى شمخت أشجاراً يصعب اقتلاعها كغابة لن يقوى عليها إلا النار ، وفعلاً أطلقت القائمة السوداء نيرانها واحترقت أشجار كثيرة ، لكن الغابة بقيت .

أما صاحب الدفتر المشقوق والمنشق على نفسه ، فكان همّه الكبير وحلمه الوصول إلى العزيزة سيدة القائمة الحمراء ، ودونها لا حساب للخسائر .

وانتهت تلك اللعبة بأن وجدوه مقتولاً على سياجها ، وشيّعه رفاقه كشهيد واعتبروه رمزاً وقائداً للثورة الميمونة ، ووضعوا إيديولوجية للثورة من بعده وقالوا إنه هو من كتبها ، وطبعت كتب كثيرة من تأليفه ولو كان غير موجود ، وكانت صورته إيقونتها .

كان صحبه من قواد الثورة يؤكدون وجود قائمة حمراء ، ولذا صبغوا علمهم الثوري بالأحمر . ولم يكن أحد ليعرف أنه ثار من أجل سيدة القائمة الحمراء ، ولم يكن أحد ليعرف أن صاحب تلك الإيديولجيات المكتوبة لم يكتب منها في حياته إلا على دفتره الصغير ومزقه في ساعة الصفر .

تعقيب :

الآن ..الآن ..وبعد أن تلونت الثورة الحمراء بألوان عديدة طيفية ومزيجة ، وبهت اللون الأحمر بفعل الشمس والمطر ، أضاف الوسطيون ألواناً أخرى كالأخضر والأسود للعلم ، وأضاف التصحيحيون رموزاً كالمنجل والمطرقة والهلال والصليب والنجمة ، أما المطعونون والطاعنون بأهداف الثورة فيقولون بأن الثورة الحمراء كانت فقط وفقط من أجل ..امرأة !

***************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى