صابر رشدي - سيدة النهر..

مساء هادئ، لكنه شديد البرودة، جعلنا ننخرط في اللعب والحركة حتى نستطيع التغلب على لسعاته القارسة. على بعد عدة أمتار امرأة وحيدة تقف متكئة على سور الكورنيش، مستغرقة في تفكير عميق، غير منتبهة لشيء. على فترات متقطعة كنت أختلس النظر إليها، معتقدًا أنها إحدى موظفات التلفزيون. حيث المبنى الشهير على الرصيف المواجه. وأنها تنتظر سيارة الوردية لتوصيلها إلى منزلها، فهناك نوبتجيات تعمل على مدار الساعة، لكن مر وقت وهي لم تبارح مكانها. محتفظة بتعابير ثابتة على ملامحها.
لا أدري، لماذا استبد بي قلق طارئ، جعلني أتابعها بتركيز مبهم، بعدما لمحت شخصًا يحاول الاقتراب منها ويتحدث إليها، ظننت أنه زميل لها، لكنها لم تبادله الحوار منصرفة إلى صمتها، حتى اختفى الرجل.
حسونة، شديد الملاحظة، هتف قائلًا:
ــ هذه السيدة لها وقت طويل هنا.
ــ يبدو أنها تنتظر أحدًا. قال جلال فاروق
مصطفى عبد الكريم، الذي أراد أن يثأر لكَمِّ الضربات العنيفة التي نالها أثناء اللعب، حاول صرفنا عن هذا الاهتمام المفاجئ، فتغافلنا أمرها، تجاوبًا معه، لكن حدث شيء شديد الغرابة، لقد ألقت بنفسها إلى الماء. النيل هنا غير بقية أنهار العالم، قد يكون بلا قاع بعد خطوة واحدة.
ــ شباب.
صرخت وأنا أجري قافزًا فوق الحاجز، ثم متدحرجًا على المنحدر الحجري المائل، كانت المرأة تدخل بطيئًا إلى عرض النهر، مسرعًا كنت وراءها، بحذائي وملابسي.
ناديتها:
ــ أنت!
كانت العتمة تفرض مظهرًا مهيبًا.
عاودت النداء:
ــ أنت!
لا شيء، لا نأمة، لا التفاتة من جانبها لاكتشاف مصدر الصوت، كانت تشق لها مسارًا بدأب ولامبالاة. أخيرًا، استطعت اللحاق بها، أطبقت على ذراعها لأمنع توغلها. التفتت إليَّ مصعوقة، رشقتني بنظرة زرعت فيَّ ارتيابًا شديدا، داهمني معها احساس بأني وقعت فريسة لعروس النهر، تلك الجنية الماكرة، وأنها صنعت تلك الألاعيب لإغوائي، وأخذي للعيش معها تحت الماء. تأكد شعوري هذا بعدما جذبتني بقوة غير طبيعية. وسط هذه الأجواء المضطربة أنقذتني يد أخرى، لحقت بي، وبدأت تجذبني إليها. كانت يد حسونة تقبض على معصمي:
ــ تعالَ هنا.
عندما انتبهت إليه، عاينت مشهدًا لا أستطيع نسيانه، كان مصطفى عبد الكريم يقبض على يد حسونة، وجلال فاروق يقبض على يد مصطفى، طابور بشري، يحاول إنقاذي من هذا الأسر.
ــ اتركني.
قالت بنبرة كسيرة.
ــ تعاليْ هنا.
جذبتها بقوة، ساحبًا إياها إلى الشط.
بعد خروجها، ولجوئها إلى الراحة قليلًا، دخلت في نوبة بكاء، انتبهنا معها إلى وجود مجموعة من البشر، ينظرون إلينا من أعلى السور، لا أدري متى تجمعوا على هذا النحو من السرعة، بعدها، حضرت سيارة شرطة، يقودها ضابط صغير، صعدنا جميعًا معه، بملابسنا المبللة، كنا ننتفض من البرد في داخل السيارة، بينما هي منكمشة على نفسها، غائبة عما يدور حولها.
قي قسم الشرطة، تم توجيه عدة أسئلة، روينا ما حدث، بينما هي ظلت محتفظة بصمتها. هناك، في النور، وجدناها جميلة، جميلة جدًّا ورائعة، عينان تشعان ببريق غريب، لكنهما مسكونتان ببؤس سديمي، لا حدود له.
أمر الضابط بتحويلها إلى المستشفى القريب، تم الكشف عليها، وحقنها بمادة أخرجتها عن صمتها المطبق، لتستغرق في نشيج متقطع هذه المرة.
ــ ما اسمك؟
أجابت بصوت خافت. كان اسمها مطابقًا لاسم مذيعة شهيرة في هذه الفترة.
ــ ما الأمر إذن؟
أمام طوفان الأسئلة، أخذت تحكي باقتضاب عن زوج قاسٍ، يضربها في كل ليلة، ويعاملها كعبدة.
ــ أين أهلك؟
ــ إنهم يرتعدون منه، يعيدونني إليه، كلما لجأت إليهم.
كانت تتحدث بنبرة مقهورة، لا تريد الاسترسال في المزيد من التفاصيل، لتستسلم ثانية إلى وضع الانكماش الحزين. بدا أن هناك ما لا تريد الخوض فيه وكشفه على الملأ، فتوقفت وهي تخفق بشدة.
في نهاية الأمر، قررنا الذهاب إلى مسكن أسرتها، لنعلمهم بمكانها، لم يكن معنا ما يكفي من النقود، ولكنا جازفنا، أوقفنا سيارة أجرة، السائق الذي استمع إلى الحكاية كلها وتعاطف معنا، بادرنا عند النزول:
ــ الأجرة.
رد مصطفى:
ــ أجرك عند الله.
ــ نعم؟
ــ لا توجد نقود معنا.
ــ ما ذنبي؟
قال. ثم انطلق وهو يصب لعناته وشتائمه القاسية.
كان شارعًا فرعيًّا، وصلنا إليه بسهولة. لا يوجد مارة، لكنا لمحنا شبحًا مسنًّا يتدثر بمعطف ثقيل، ويعتمر شال صوفي ثقيل، كان يقف متجمدًا بجواره شاب صغير، عندما اقتربنا منهما، سألنا عن البيت، فصاح الرجل متلهفًا:
ــ ابنتي، ما الذي جرى لها؟
ثم استدرك سريعًا، مداريًا ارتباكه:
ــ تعالوا.
قادنا إلى منزله.
في الداخل، روينا له ما حدث، كانت الأم منزوية في ركن بعيد، معها فتاة، واضح أنها ابنتها. كانتا تستمعان إلينا صامتتين، بين لحظة وأخرى تنطلق دعوات الأم على زوج ابنتها وهى ترتجف ساخطة. في هذه الأثناء، حضر أيضًا أحد الأبناء من الخارج، علمنا أنه عائد للتو من رحلة بحث عن شقيقته. طمأنه الأب سريعًا، ولكن الشاب الصغير الذي يبدو عليه أنه أصغر أفراد الأسرة، صاح فيهم:
ــ لا بد من إنهاء هذه الزيجة.
ثم اتجه بعينيه إلى شقيقه الأكبر:
ــ أنت السبب، كنت تظن أنك تصاهر أحد الملوك.
كان يواجهه بنبرة غاضبة، تقطر كراهية، جلبت معها شجارًا عنيفًا، وصياحًا مخلوطًا بالهذيان.
الوالدان، كانا يتحدثان بلهجة ريفية موسومة بالطيبة رغم الانفعالات الطارئة. مع تصاعد الفوضى، اخترق الصالة مارد ضخم، توسط المكان من فوره، فران صمت عميق مع ظهوره المفاجئ، سكن كل شيء، على نحو أصابنا بالتوتر، كان رجلًا طويلا، ذا مظهر قمعي متغطرس.
ــ هل وجدتموها؟
جملة واحدة، صدرت عنه، جعلت الغرفة تعبق برائحة كحول نفاذة، كان مخمورًا، لكنه رابط الجأش، ومتماسك بشكل ملحوظ.
انتبه إلينا.
من هؤلاء؟
هؤلاء من أنقذوا زوجتك من الانتحار.
أجاب الشاب الصغير، بنبرة مستفزة. لكن الأخير صوب إليه نظرة جمدته في مكانه وأسلمته إلى الخرس المؤقت. فتبرعت بإخباره على مضض بما حدث.
ــ لنذهب الآن.
قال وهو ينطلق إلى الخارج، تشيعه نظرات الغضب والكراهية التي تغلي في الصدور. كانت لديه سيارة فخمة. صعدنا معه، وركب أصهاره سيارة أخرى، ومضوا خلفنا. كان لا مباليًا، كثير الاعتداد بنفسه إلى حد الغرور، لديه إحساس باطني بخطورته.
في الطريق، وأثناء قيادته المتهورة، قام بوضع شريط غنائي داخل كاسيت السيارة، وراح يستمع، ويدندن بحس ساخر، بدأ معه مزاجنا في التعكر.
بادره حسونة محتدًّا:
ــ يبدو أنك رايق جدًّا.
واصل الغناء دون مبالاة، مندمجًا مع صوت المطرب الشعبي الذي يشبهه كثيرًا.
بادرنا بعد هنيهة:
ــ ماذ كنتم تفعلون عند الكورنيش؟
برغبة شديدة في مضايقته، باغته جلال:
ــ كنا نبحث عن نسوان!
شعر بالصدمة، ولكنه تحول إلى رجل خفيف الظل، على غير رغبته:
- عاش. قال...
ربما وجد أن استعراض قوته لن يفيد في هذه الظروف، فهو يواجه فتية غاضبين.
عندما اقتربنا من قسم الشرطة، ارتج للحظات، ولكنه تفادى ذلك سريعًا، حتى لا يظهر عليه الارتباك. لم نشأ الذهاب، انتحى مصطفى عبد الكريم بالضابط، أخبره أن الزوج سكران، وأنه بلطجي كبير في منطقته، والجميع يشعرون بالرعب منه. فرد عليه بنبرة حاسمة:
ــ هذا عملنا.
السيدة الجميلة، كانت مثار عطف الجميع، وإعجابهم المبطن، كانت محاطة برعاية حانية، أجلسوها بغرفة الاتصالات، وقاموا بتشغيل موقد كهربائي بالقرب منها، ليجلب إليها دفئا مناسبًا، وأخذوا يقدمون إليها مشروبات ساخنة، كوبًا وراء الآخر.
في لحظة خاطفة، وبينما كنا نستعد للانصراف، اهتز المكان تحت وقع هدير عاصف، كان الزوج المخمور يجأر مستغيثًا، صارخًا بأعلى صوته:
ــ أحبك، أخبريهم بأني أحبك.
كان يعوي بارتجاف جنسي متحشرج، يتمشى في حنجرته بعصبية واضحة، كأنه معلق في أنشوطة الموت، ذليلًا، محطمًا، لا يملك سوى الخضوع، وإطلاق الوعود السرابية بانفعالات خالية من المعنى. كانت ينهار، متحولا إلى أنقاض تحت وقع اللطمات المتتالية. بينما المرأة تبكي صامتة، مطرقة إلى الأرض حينا، ومثبتة عينيها إلى الفراغ حينا آخر، تتأمل في اللاشيء وتسهو. كان اتقاد دمها محض تلخيص لحياتها. وكانت تسطع برقة حزينة، وجمال أبكم لن يغيب عن أذهاننا أبدًا.

"أخبار الأدب"
الأحد 10 يناير 2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى