ميسلون هادي - صيحة الهامة.. قصة حقيقية

الكثير من الهوام موجودة حولنا ولا نراها.. ولا يمكننا رسمها أيضاً على ورقة لأننا لا نستطيع تخيلها.. الخالق الأعظم وحده هو الذي يخلق ما لا نعلم، وهو الذي يستطيع تخيل الشيء قبل خلقه… ويمكنه التغيير في رسمه أيضاً قبل أن يراه… وعند إيداعه أفضل أشكال الحياة.. يقول له كن فيكون.. ومع أن ذلك التخيل غير متناهي للأشياء، لا يمكننا نحن فعله كبشر وتعجز قوانا العقلية عن الإتيان به، فإن هذا العجز عن تخيل الهوام كما ينبغي، لا يعني أنها لا يمكن أن تكون موجودة حولنا، أو أنها لا تستطيع التأثير في أفكارنا وأحلامنا وأجسامنا وعقولنا.. فمثلما تعيش أخطر الكائنات، وهي الجراثيم، في الهواء المحيط بنا دون أن نراها بالعين المجردة، فإن هذه الهوام تحيط بنا من كل مكان دون أن ندري أنها موجودة..

إذن لا بد من الاعتقاد بوجود كينونات أخرى تحيط بنا وتتجول حولنا من جهات مختلفة، ولربما هي قادرة على الاستمرار إذا ما شربت بخار الماء الموجود في الهواء لكي تتغذى أو إذا امتصت الضوء القادم من أشعة الشمس لكي تعيش….. وقد تتناول ذرات السكر من ملاعقنا وأطباقنا ..وتتشارك معنا في العصير والشكولاتة … ومادامت الجراثيم هي المخلوقات الأخطر والأشد فتكاً بنا على الإطلاق، فإنني سأفترض أن هذه الهوام تساويها في المقدار وتعاكسها في الإتجاه فهي إذن الأشد لطفاً ورفقاً بنا على الإطلاق.. وإنها حشد كبير من الأطفال المعمرين الذين يتعذر علينا رؤيتهم.. قد يعيشون في جيوبنا أو بين أصابعنا… لا ندري هل يقلدوننا أم نقلدهم؟.. هل يستمعون إلينا أم نستمع إليهم؟.. وهل أن التواصل معهم لازال سابقاً لأوانه ماعدا البعض من تلك الإشارات الضعيفة التي تصلنا على شكل أفكار خلاقة ونوتات موسيقية، وحلول لمعادلات رياضية استعصى حلها لأعوام طويلة…

أتساءل مع نفسي أحياناً لماذا لا تتصل بنا هذه الهوام الطيبة بطريقة أخرى أكثر وضوحاً؟…. لماذا لا ترسل لنا سوى تلك الإشارات الضعيفة التي تأتي على شكل كوابيس في النوم أو شعور بالندم أو إحساس مفاجئ بالحزن لدى حضورنا عرساً باذخاً أو سماعنا لحنا بهيجا… أرقني ذلك السؤال طويلاً وفكرت فيه كثيراً وانا استلقي مستيقظة من يوم الجمعة ليوم الخميس..ومن أقصى الربيع لأقصى الخريف.. ومن حافة النوم إلى حافة الفجر، إلى أن رأيت قبل أيام فيلم (نبوءات الرجل الفراشة) لممثل شعره شديد البياض اسمه رتشارد كير فعثرت على ما بدا لي الجواب الأكيد لذلك السؤال..لا تخرج الأجوبة الجيدة من منازلها وجحورها إلا في الليل ولا أستبعد أن يكون للهوام الطيبة دور في عثوري على ذلك الجواب وذلك من خلال عالم عجوز إتهمهه الناس بالجنون لاعتقاده هو الآخر بوجود تلك الكائنات التي تحيط بنا دون أن نراها.. سأله البطل سؤالي نفسه وهو لماذا لا تتصل بنا هذه الكائنات المتفوقة إذا كانت موجودة؟ أجابه قائلاً: إنك اكثر تحضراً من الصرصور فهل تفكر بالاتصال به ذات يوم؟

كان المفروض ترجمة عنوان الفيلم إلى (نبوءات الرجل الهامة) وليس (نبوءات الرجل الفراشة)… لأن حشرة (الموث) المسماة لدى العرب بالهامة، هي التي جعلها الفيلم تبث حالة الرعب بين الناس، وليست حشرة (البترفلاي) التي نراها في الحدائق والحقول.. مع الأسف أعطى الفيلم طاقة تدميرية لذلك الموث، الذي يعتقد العرب أنه فراشة البر وحشرة الحق التي تحوم حول قبر القتيل الذي يموت غيلة ولا تختفي من فوقه إلا حين يؤخذ بثأره دمه من القاتل. أشار الفيلم أيضاً الى وجود هذه الفراشة في تراث شعوب أخرى كأوكرانيا، ولم يشر إلى وجودها في تراث العرب القديم، فقلت لنفسي كان ينبغي عليهم التفكير بتلك المصادفة (ليست مصادفة بالتأكيد) أن يكون اسمها في اللغة الإنكليزية مقارباً لكلمة الموت العربية…… هكذا هو الغرب.. قد أصبح يتحاشى ذكر العرب في كل أفلامه.. سواء في الخير أم الشر.

بتلك الجملة السحرية، التي تستحق الجائزة الوحيدة في فيلم لم يكن بالمستوى المطلوب، وجدتُ تفسيراً معقولاً لتقاعس تلك المخلوقات عن الاتصال بنا والتحاور أو التفاعل معنا.. إذن … هذه الهوام موجودة في مكان ما وتتشارك معنا الضوء والهواء والجاذبية ولكن عدم اتصالها بنا شبيه بعدم إتصالنا نحن بالنمل أو النحل أو العناكب، وهذا التباعد عنا قد يكون له سبب وجيه مرجح على باقي الأسباب الكثيرة .. كأنْ تكون لتلك المخلوقات شؤون راقية تختلف عن شؤوننا، وربما هي متفوقة علينا أخلاقيا إلى درجة لا تعطي لنفسها حق التطفل علينا أو التدخل في أمورنا ولا تبيح لحياتها أن تتقاطع مع حياتنا بل لا تريد إصلاحنا أو إسقاطنا من حسابات الوجود كما نفعل نحن مع النمل والسحالي والصراصير..

ما حدث بعد ذلك يجب الانتباه إليه بشدة لأني سأروي لكم قصة حقيقية جداً جعلتني أعتقد أن تلك الهوام قررت التدخل في النهاية.. شيء غريب أخذ يحدث في الهواء من حولنا يعطي الدليل الأكيد على أن ذلك الوازع الأخلاقي قد تململ في النهاية وخضع لاضطرابات عديدة تحت وطأة جنون الإنسان وجشعه غير المتناهي… يبدو لي أن تلك المخلوقات التي تجاورنا قد مرت بظروف عصيبة وهي تتأرجح بين حسها الانعزالي الراقي، وبين مسؤوليتها الكونية تجاه مسيرتنا البشرية المتجهة نحو أفق متواضع جداً من الأخلاق، بل يكاد يخلو حتى من أدنى شعور بالتعفف والتعاطف والإيثار. يبدو لي انهم في لحظة صدق نادرة قرروا التحرك لإيقاف هذا الدمار.. و بدون تردد سأكف عن مخاطبتهم بصيغة التأنيث كما يفعل النحويون العرب عند الحديث عن الحشرات، واستعمل صيغة الجمع الإنساني عند الإشارة إليهم، فهم يستحقون أكثر من ذلك بعد أن حدث ما حدث واثبتوا أنهم ليسوا أدنى من البشر.. بل هم أعلى منهم بكثير، كما سيبدو من ذلك التدخل الأخلاقي العظيم الذي قرروا حدوثه أخيراً..

ماذا يفعلون؟ لم يعد صمتهم ممكناً بعد أن وصل أجر فنانة مجنونة كمادونا مليون دولار أمريكي للحفلة الواحدة وبلغت ثروتها قرابة 500 مليون دولار أمريكي …والأدهى من ذلك أنها تظن مالها حقاً زلالاً يجب أن تحرسه وتحرس نفسها من اللصوص، فتعطي أجراً مقداره ألف دولار في اليوم الواحد لكل حارس من حراسها الشخصيين، أما منحة زوجها من أجل طلاقها فكانت خمسة وسبعين مليون دولار…. تكفي معيشة جيش كامل من الخدم المهاجرين من شرقي آسيا إلى دولة من دول الخليج العربي.. وهناك أيضاً سيلين ديون التي تمتلك ثلاثة آلاف زوج من الأحذية وتسمي تلك العادة بالسيئة ولا تراها كارثة شبيهة بغرق التايتنك.. وبعد سيلين ديون هناك جوليا روبرتس التي تخدع نفسها بالسكن في بيت صديق للبيئة واستعمال حفاظات صديقة للبيئة.. وتكلفة تلك الصداقة المضحكة هي الملايين التي تتقاضاها من أجرة فيلم واحد.. ولا ننسى الدول العربية التي يأكل فقراؤها من القمامة بينما ترمي الغادات من راقصاتها أموالهن إلى سلة الزبالة أو إلى المراحيض المطلية بأغلى المعادن .

ماذا يفعلون؟.. لم يعد صمتهم ممكناً على هذا الخراب.. عذبَتهم أفاعي الحنفيات المصنوعة من الذهب وأميال الورق الملفلف في دورات المياه والشبكات القطنية المعطرة التي تغطي ماء المراحيض.. أصابهم الذهول من ذلك العالم السري للمجانين، فراحوا يحومون كالهامات حول أرواح القتلى من البشر الذين ذهب دمهم هدراً بسبب بشر آخرين يظنون أنفسهم أحياءً يشعرون.. قرروا التدخل لإيقاف هذا الدمار الشامل للأخلاق.. وكان هذا التدخل سهلاً عليهم للغاية لأنهم يستطيعون رؤية ما مكتوب في الإيميلات التي ينقلها موج الهواء المستقيم وما يوجد في فقاعاته الخفية من حوالات وأوامر بنكية.. كان ذلك الهواء هو ساعي البريد الذي يتداول تلك الأرقام فيحمل مليارات الدولارات تذهب إلى أمير واحد من أمراء الخليج.. وفي مكان آخر طفل يموت من أجل دولار واحد…. بدأت تلك الإيميلات تحول تلك الأرقام المهولة إلى حسابات وهمية لأشخاص ماتوا قبل عشرات السنين، وتغيرت أسماء أصحابها إلى أسماء قتلى ومجهولين لا يعرف بهم أحد. كما كانت بعض الايميلات المليونية تصل لأصحابها فارغة من الأرقام وبعضها يُمحى ولا يصل أبداُ… كل هذه الأرقام يجب أن تُمسح من الوجود.. وكل هذا الرعب يجب أن ينتهي.. ويوماً بعد يوم كانت تلك الإيميلات تزول وتختفي من الأقمار الصناعية أو تصل مرسوماً عليها إشارات غريبة ورسومات غامضة.

انشغل العالم طويلاً بتلك الإيميلات المجهولة المصدر، وعزا وجودها إلى نوع من الفيروسات التي تصيب الحواسيب والتي سميت بهذا الاسم لأنها تشبه الجراثيم التي تؤذي البشر وتشترك معها في التستر دائماً خلف ملف آخر، بحيث حين يشتغل البرنامج المصاب، يتم تشغيل الفيروس أيضاً من أجل التخريب.. وكلما تأخر وقت اكتشاف الفايروس إزداد عدد الملفات المصابة. ولكن ما هي فيروسات الحواسيب؟.. أليست هي كائنات طفيلية لا نراها و برامج صنعت عمداً بغرض تغيير خصائص الملفات التي يصيبها لتقوم بتنفيذ بعض الأوامر، إما بالإزالة أو التعديل أو التخريب وما شابه ذلك من عمليات. أليست هي برامج خارجية يكتبها بطريقة معينة من مبرمجون محترفون بغرض إلحاق الضرر بكومبيوتر آخر، أو السيطرة عليه أو سرقة بيانات مهمة منه. هذا صحيح الى حد بعيد فيما يتعلق بالسطو والتخريب والقرصنة على فايلات الأماكن الحساسة وحسابات البنوك، أما في حالة البرامج التي تريد الأخذ بالثأر للمقتولين غدراً، فمن الخطأ القول إن مبرمجيها الذين ألحقوا الضرر بإيميلات الأمراء والملوك والأثرياء كانوا من هذا النوع.. بل هم كائنات أقرب إلى (الهامات) التي تحوم حول قبر الإنسان القتيل المغدور وتصيح: اسقوني اسقوني.. ولا تذهب بعيداً عن مثواه حتى ينتقم من القاتل….

لا نراها ولا نمتلك حسها الاخلاقي الرفي،ع ولا نعرف إن كانت تنام أو لا تنام، وتضحك أو لا تضحك.. ليس مؤكداً إنْ كانت مخلوقة من ماء مهين، أو كانت تمتلك شيئاً مما نمتلك من مشاعر وأفكار، ولكن المؤكد أنها تعرف ما هو الصحيح وما هو الخطأ، وتمتلك أضعافاً مضاعفة مما نمتلكه نحن من هذه الإحساس بالخطأ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى