منى عزالدين - الذي تفرون منه

لم أدرِ ما الأمر، فاجأتني بصرختها الخافتة حين تلقفت بكلتا يديها الصغيرتين البلبل عن طاولة العرض ، هممت بتوبيخها ..استوقفتني نظرات خيبة تفيض من عينيها على أناملها الدقيقة المنهمكة بفرك سطحه لاعنةً ألوانه وكأنها تستدعي ماردا فيه ليقضي على طلائه

ابنتي ذات الأعوام الخمسة ومثل نصفها قهر.
تفتحت مداركها على الحياة لتجدني وحدي معها على أرض تنبت الخوف كل يوم، وترمينا سماؤها بالشواظ .
فنتدرأ بالهروب وننتعل الخوف.
أقدامها الصغيرة كانت تشخب دما، حملتها بيد وكيس أمتعة بيدي الأخرى ومضينا مع غيرنا في نهر بشري
أو هكذا كنا نظن، لكنه وللحقيقة نهر ماء ابتعلت الأرض نصفه، وتعلقت الأوساخ والأتربة ببعض روافده ..

كانت خائفة، وكلما أرخيت قبضتي حول خصرها من التعب صرخت في وجهي؛ أين أبي ؟

_ ينتظرنا هناك ياابنتي
_تكذبين علي ثانية
_ألا تثقين بي ؟!
أحنت رأسها وضغطت على شفتها العليا وهي تصوب نحوي نظرات لوم، مررت يدها الصغيرة على تضاريس صنعها الجلد المنكمش في خدها
- حسنا يامشاكسة قلت لك ستختفي هذه التضاريس عندما نصل وليس على الطريق
والآن عليك أن تسيري لأرتاح من الحمل قليلا
- هذا الطريق يشبه وجهي مجعدا ليته كان كوجه أبي
أو ليته كان أملس كسطح بلبلي الأبيض
قطبت حاجبيها من جديد
_كذبت علي ولم تحضري بلبلي
_اصمتي قليلا وركزي في خطواتك ، سأشتري لك واحدا عندما نصل
_أبيض لاتنسي
لا أريده ملونا مثل الألعاب النارية

_اطمئني هناك حياة كلها بيضاء
فقط اصبري واستعجلي

أبي انظر سوف أسير بسرعة كي ألتقيك في الحياة البيضاء
_رددتُ مشجعة
واحد اثنان ثلاثة

أكملت قذيفة العد أربعة خمسة صاروا اشلاء على بعد أمتار منا، ومطر ملون حارق انهمر

_لاتخافي ألعاب نارية انبطحي
_كتلك التي أكلت وجهي .. اكره الألوان أكره الألعاب
ابتلع الهواء صوتها

في صمت مهيب تحسست مكانا شاغرا أسفل جسمها وامتلأت بالدموع
شقت صرختها الهستيرية جدر المشفى؛

_أمي أمي
أنا لا أثق بك
ألعاب نارية أكلت قدمي

طفرت من عيني شظية حرقت وجهي، التهمت الكلمات والتبريرات.

كانت الممرضة تمسح دموعها وهي تبدل الضمادات
وراما تصرخ بأعلى صوتها
وجهي قدمي
أبي ...أين أبي ؟

مسح على رأسها بحنان وتابع عمله بإتقان
-أبوك بعث لك بقدم والآن ستسيرين بها لتشتري لعبة من المتجر القريب

مشت بتثاقل وأمام واجهة المتجر ضحكت لبلبل أبيض يدور بسرعة فائقة
جذبتني من يدي ودلفت مسرعة وهي تردد
_ وأخيرا صدقتِ إنه البلبل الأبيض

كان من الصعب أن أشرح لها أنه ملون لكن دورانه السريع جعله بلون البياض
أطرقت عجزا وهي تصرخ
إنه ملون كتلك الالعاب النارية
هل نحن مازلنا هناك .
لاتجيبي
أنا لا أثق بك ولا بالألوان

منى عزالدين /سوريا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى