فتحية دبش - ندبة!.. قصة قصيرة

وعدتُ أمي أن أزُورها في السنة مرةً، لم أفعل. هذه السّنة، زرتُ أبي، لم أُحضر معي ماءً وقمحاً كما جرت العادة عندنا حين نزور موتانا. لم يكنْ معي إلاّ معطفٌ يرد الجليد الذي يسكنني، وجرابٌ مليئةٌ بالشفقةِ عليه من حكايتي.
كان قبرُه كما تركته آخر مرة، ككلّ القبورِ المجاورةِ نبتت على حاشيتِه الأعشابُ الطفيليةُ والفضلاتُ البلاستيكيةُ التي حملتها الرياحُ وأهملتها يدُ عامل التنظيف.
استقبلني بضحكةٍ مواربةٍ بين البهجةِ والعتابِ. لا يفهم أبي سرّ مجيئي إليه بدلًا عن أمّيْ، ارتبك قليلاً، سلّمنا، وسألني سرّ هذا المجيء المبكّر قبلَ أن يعاتبني على عدم الوفاء لأمّي!..
أخبرتُه أنني بين البقاءِ والرّحيلِ و أنّني أريد أن أقصّ عليه حكايةً ستربكُه كما فعل به مجيئي!.
جلستُ عند رأسِه، انفتح لي في قبره بعض كوّة، مددتُ منها يدي، أخذتُ بطرفِ شالِه الأبيض ألفّه بين أصابعي توتراً.
قلت له؛ أنّني أحمل جثّتي لتُجاوره إلى غير أجل، يتمايل ترابُه تحتي، صوت ما يدوي كأن الأرضَ تنشقّ.
من نفسِ الكوّةِ يأتيني ذراعُه، يحتويني. يده التي طالما ربتّت على كتفِي تمتدّ نحوي، جعلتُ لي بقُربه موضعاً و ألقيتُ رأسي على راحتِه...
قال:
- "كانت عمّتك حلوة جدّاً، يسمّيها الرّجال الجازية، طالما تقاتلوا للظّفرِ بها، عندما قرّروا حسم الخلاف وجعلها تختار فارسَها على غير العادة اختفت، في ليلة حالكةٍ جاءت بإبريق الماءِ واستأذنَت لزيارة صديقة لها، دعا لها أبي باسّلامة.. ذهبت و لم تعد... بعد سنواتٍ من البحثِ، ظهرَ لنا ابنة أخت تطالبنا بدمِ أمّها التي ماتت صباح ليلةٍ شتويّةٍ بعد أن أشعلها زوجُها حطباً للتّدفئة، فتمزّقت ندبةُ الختان، ماتت وفي قلبِها حكايات لم تقصّها على مسامع أحد!"
قلت له بصوتٍ مرتجف:
- "لكنني عدتُ يا أبي! عدتُ! عدتُ محمّلةً بشيء من الوجَعِ و الخيبةِ وقلبٍ فيه من الهمّ الكثير، لكنّني يا أبي كعمّتي، أحملُ حكاياي وهي ليست كتلك التي قرأتُها في الكتب.الرّجل الذي زفّني إليه قدري سرعان ما نفض منّي يديه، ملأ كؤوسي دمعاً و انتهى! لم أكنْ أصلح حرثاً له، قبلَ أن يداهمه البكاء عليّ، اتّهمني بالموت.. أنا جثّة يا أبي! أنا الذبيحة مرّتين.. لماذا يا أبي؟! "
يدُه الباردة ملأتني دفئاً و صوتُه كعادته يهمسُ :
- " هو العرفُ يا بُنيّة و كيف للعُرف أن يُمْحَى!"
قلت:
- "رأيتهن يا أبي في ليلتي تلك، يزغردن على وقعِ صُراخي و يتطّهرْنّ بدمي و دمْعي وأنت بعيد، سمعتُهُن من بين كوابيسي كلّها يتبادلن التّهاني و بعدها لم أستيقظ!"
تمتدّ يد ويد ويبتلعني ظلام سميك في عتمةِ القبرِ، كنّا ثلاثتنا، أبي، أنا و زوجي، وارانا التّراب رجال بعمائمٍ و كتبٍ، بينما نساء - بعضُهن- ينكشن الشعرَ وينتحبْن و-بعضُهُنّ- يُزغردن و ينعتني بحوريّة الجنّة، متّ عروساً، يدي مخضبّةً بالحنّاء!


# فتحية دبش
(كاتبة قاصّة وروائية من تونس)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى