د. جورج سلوم - حكاية المِصعَد.. قصة قصيرة

بيب.. بيب .. إنه صوت إنذار المِصعَد الكهربائي بأنّ الحمل يفوق الثقل الأقصى المسموح ، وبالتالي سيبقى الباب مفتوحاً ولن يصعد بنا .
بيب.. بيب .. بيب .. والضوء الأحمر المتوهّج على لوحته الإلكترونية ينذر الأشخاص الصاعدين بأنّ الوزنَ الجمْعيّ للراكبين تجاوز الحدّ الأعلى .
بيب..بيب .. وكأنهم صمٌّ عُمْيٌ ولا يفقهون .
بيب ..بيب.. والكلّ اعتبر أن الأمر لا يعنيه ، ولن يضحّي ويتنحّى خارجاً ليكمل صعوده على السلالم ، أو سينتظر عودة المصعد من رحلته المكوكية بعد دقائق .
كنت آخر من دخل ذلك المصعد الذي يتسع لعشرة أشخاص معتدلي الوزن ، فكنت (الأحَدَعشَريّ) ، وكنت العصاة العاصية التي جعلت دولاب المصعد عصيّاً. وحشرْتُ نفسي بينهم وانكمشت على بعضي بين ظهرانيهم ، حيث التصقت المناكب وتناطحت الظهور وتلامست الأذرع وتلاثمت الأحذية وأطرقت الرؤوس كي لا تلتقي الأنفاس وتتلاقح الخياشيم .
وتحت إصرار الأنين من جهاز الإنذار أحسَسْتُ أنّ الكلَّ يرمقونني ، والعشرون عيناً مثبّتة عليّ تحدجني بنظراتها ، وكأنهم يطلبون منّي أن أنسحب بلطف .
لكنّ أحدهم لم ينبس ببنت شفة ، وكنت ما أزال مطرقاً إلى الأرض وكأني في عالم آخر ، لا بل حاولت الانحشار والغوص والمزاحمة بينهم أكثر فأكثر لأبتعد عن الباب ، فإن أدخلتَ رأس حذائك جنيب حذاءٍ ما ، يعني أنك ستربح موطئ قدم ، وإن دفعت حقيبتك بين شخصين تعني أنّ جسدك سيلحق بها بالمعيّة ، كأنك تقضم الفراغات المهملة بين البشر فيزيد التراصّ والارتصاص بين القوم ، حتى أفردَتْ لي إحداهنّ مكانها كي لا ألتصق بها وأصبحت هي الأقرب من الباب كي لا تتناولها الأكفّ والأصابع التي لا صاحب لها أو تتناهبها الأجساد التي لا وجه لها!
لقد تعلّمْتُ تلك الطريقة الطفيليّة من التعلّق في باب حافلات النقل الداخلي ، حيث يكون جسدكَ كلّه خارجاً أثناء سير الباص ، ثم تنخرط بين الركاب رويداً رويداً بطريقة الإنسلال والتسلل والرهز والدفع والجذب والقحقحة والنحنحة والتطاول والتقاصر والتمدمد والتهدهد ، حتى لتصبح في وسط الباص مستنداً ومسنوداً بالأجساد المتمايلة مع كل مطبٍّ من الطريق الوعر .. لا مكان للدماثة والكياسة واللطف واللياقة واللباقة والاستئذان في طوابيرنا الوطنية ، وإلا فلن تحصل على مبتغاك من المواد المقنّنة ..لا بل يتّهمونه بالجبن وقلة الحيلة ذاك الذي يلتزم بدوره .
وابتسمتُ في نفسي حيث أن ذاك المصعد المحشور خيرُ مكانٍ للتحرّش والتحشّر والتحسّس والتلذّذ في ضيقة الأجساد ، وأفضل مزّاجةٍ تتمازج فيها روائح الطيب النسائي بالرجولي مع رائحة من لا طيب له ، إنه مكان دافئ وحميميّ بين من ينظر إلى السقف وبين من ينظر إلى الأرض وبين من تاهت عيونه بحيث أنه يرى ولا يرى .
إنها لحظات انتظار من المصعد ـ الآلة ـ التي تسخر من فوضى البشر طالبة منهم الإشفاق على كاهلها بإصدار بعض الأنين وبعض الإنذار الضوئي ، لكنّ البشر ديدنهم الله نفسي ، ولو كان المصعد حماراً حروناً من فرط حمله لجلدوه عندها بالسياط قائلين ..تحرّك أيها المصعد الكسول !
هل أنا كنت القشة التي قصمت ظهر البعير ؟..وبدوني لكان البعير الكهربائي قد صعد ونزل مراراً بسلاسة ونشاط ؟
لا بل زاد الطينَ بلّة تزايد المراجعين في تلك الدائرة الحكومية في وقت الذروة ، ويتجمّعون على باب المصعد المفتوح وينتظرون أيضاً ويتفرّجون على الذين وطئوا أرض المصعد وقبعوا منتظرين وكأنّ البيب التي يردّدها المصعد لا تعنيهم .
كل هذا ولم يتنازل أحدهم عن مكانه ، ولم يفتح أحدهم فاه ، مع أني سمعت همهمة ونحنحة بنبرة التذمّر ، بمعنى أن يا مَن تعرف نفسك بأنك دخلت آخراً فلتكن أوّل من يخرج !
لكني ما اعتبرت الأمر يعنيني ، لا بل قلت بتهكّم وسخرية :
-الأمر يحتاج بعض الذوق ، فإن بقينا هكذا لن يصعد بنا المصعد ، وأنا مع أني لست الأخير فإني قد أخرج وأنتظر لولا أنني مستعجلٌ ومنهَك من الجري بين دائرة وأخرى ..إنها معاملاتٌ روتينية مريضة وفسادٌ إداري مستشري ..وسأكتب تقريراً بذلك لأفضحهم جميعاً !
ولم يجِبْ أحد ، لا بل أصبحتُ مُستثنى بإلا من التضحية بمكاني طالما أنا من كتبة التقارير المخيفة ، لكنّ الهمهمة علت وأصبحت مخلوطة ببعض التمتمة والتأفّف !
وقال أحدهم :
-طبعاً ..فنحن شعب لا تليق بنا الحضارة ، هيا فليخرج أحدكم فقد ضاقت أنفاسنا وسال عرقنا ، هيا وكلها ست طوابق فقط ، اعتبروها رياضة بدلاً من كبسولة اللحم البشري هذه التي نتشوّى بها .
وقالت إحداهن ساخرة :
-والله أتمنى لو يصعد بنا قليلاً ثم يتعطّل عسانا نختنق ونتّعظ ونتعلّم ، ولن نتعلم .
ورفعت أخرى صوتها وكأنّ أحدهم داس على طرفها :
-هيه ..لماذا لا يكون هناك مصعد للرجال وآخر للإناث ؟..وكل مرافقنا العامة فيها فصل بين الجنسين إلا المصاعد الكهربائية !
وتمتم آخر ضاحكاً :
-وقد ينقطع بنا الحبل في منتصف الطريق ، ويكون سقوطنا مريعاً .
وقلت لأثبّت مكاني كسيّد من أسياد الموقف :
-والله ..لو كنا في عرض البحر والمركب ينوء بحمله لألقيت بنفسي فداءً عن الآخرين ، وأكملت مسيرتي سباحة !

الهرج والمرج داخل المصعد غطّى على الإنذار الذي يصدره المصعد ، فما عادت البيب مسموعة أو اعتدْنا عليها ..لست أدري .
وما زادني ذلك إلا إصراراً على المزاحمة ، حتى صرت قريباً من زاوية غرفة المصعد وبتّ أرى الوجوه المتبرّمة في مرآته الكبيرة . ومرّت دقائق أحسَسْتها طويلة ..لا ..لن أخرج الآن ..هكذا قلت في نفسي .. فلو خرجت سينظرون إليّ شزراً ويعتبرونني سبب التأخير ..فليخرج غيري ، ويصعد بنا ونتناسى تلك الدقائق في زحمة أشغالنا .
وبدأت أحس بدفعٍ من جانبي ، وحذاء يحاول شقّ طريقه من بيننا بالطريق المعاكس نحو الباب ، وكتف بدأ يرتطم بالأكتاف محاولاً الخروج .
كان الرجل في عمق المصعد وبالتالي قد يكون هو أول الداخلين إليه ، ومع ذلك قرر الإنسحاب من رحلة الصعود مفسحاً المجال لغيره ، وفعلاً أفسحوا له الطريق ليخرج واحتلّوا مكانه فوراً ، كان لا ينظر أمامه بل إلى الأرض وكأنه خجِلٌ من تردّده وتأخّره في التضحية ، وراعني شعره الأشيب وظهره المحنيّ وقد غدا قريباً من الخروج ، لا بل كانوا يدفعونه دفعاً ليسرّعوا عملية خروجه ، وكأنهم يلفظونه لفظاً .
وكاد أن يهوي لولا استناده على بعض الجمع الواقفين خارجاً ، إذ أن يديه كانتا مشغولتين بالعكاكيز المعدنية تمتد حتى إبطيه .
وأجفل الجميع – من اعتلوا خشبة المصعد والجمهور المحتشد خارجاً – عندما رأوا هيئة الرجل الكاملة ..كان بساقٍ واحدة وعكازين ، وقف أمام الجميع وما زال مطرقاً خجلاً ، ثم أعطى ظهره للجدار ليستند .
وانسحب الباب الأوتوماتيكي للمصعد على الفور ، وأقلع صاعداً ، وتنفّس البعض الصعداء .
كنت قريباً من لوحة أزرار التحكم ، فضغطت على زر الإيقاف الفوري الأحمر ، ليتفرمل المصعد ثم يكمل ببطء إلى الطابق التالي ، واستهجن القوم فعلتي إذ أنه بهذه الفعلة قد يقف بين طابقين ، وخرجت بما يشبه التجذيف بين أجسادهم حتى صرت خارجاً .
نفضت عن وجهي ما تبقّى من غبار الخجل ، ونزلت مهرولاً على الدرَج لا بل متقافزاً ، حتى وصلت إليه .
كان وحيداً ، بعيداً عن الجمع الذي يحجز مكاناً للرحلة التالية ، واثقاً بأنه لن يصعد حتى ولو كان أول الداخلين .
أخذته من مرفقه ، وطاوعني وامتطى عكازيه وبدأ يخبّ برجله الواحدة ، ونظر في وجهي باسماً ولم أجرؤ أن أنظر في عيونه .
صحت بأعلى صوتي ونحن خلف الواقفين المنتظرين وكانوا بالعشرات :
-أفسحوا طريقاً لأبي العاجز يا عرب !
وأخذت عكازه المعدني الطويل وجعلت الشيخ يتأبّطني ، وأخذت أدقّ الأرض بالعكاز وكأنني في حقل ألغام ، لا بل كنت أنكز من يتجاهلنا ، لا بل كنت مستعداً أن أضرب بعكازه كل من يتردد في إفساح المجال لنا نحن الإثنين ، حتى صرنا سويّاً بباب المصعد المغلق .
نظرت إلى لوحة الإشارة وكان السهم المتحرّك موحياً بأن المصعد الآن في رحلة الهبوط والعودة ، وقلت متوعّداً وصوتي ما زال عالياً ليسمعني الجمع :
-إنها ثوان يا أبي ، وسنحتل مكاننا في صدر الصاعدين ، وويلٌ لمن سيعرقلنا !
بعد أن أوصلته للموظف المختصّ ويسّر له أموره ، تركته وأنجزت معاملتي أيضاً ، ونزلت على السلالم الستة بطيئاً متفكّراً بتجربة الخزي التي تعرّضت لها ، كنت بحاجة لشخصٍ ما أروي له ما فعلنا بالشيخ ذي العكازين ، لكن السامع قد يسخر مني ويعتبرني من مدّعي المروءة .
في المساء قررت أن أكتب ملاحظة في دفتري أتعلّم منها درساً من معمعة المصعد ، وفعلاً رأيت السطور تتسابق في قلمي ، ووجدت نفسي قادراً على كتابة حكاية طويلة عن تجربة المصعد ..وما أظنّ أني أسهبت !
*****************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى