فاطمة النهام - المرأة الاخطبوط.. قصة قصيرة

في صباح أحد الأيام الممطرة، ترجلت الآنسة (جاسيكا جوليان) من سيارتها وتوجهت إلى الجامعة. فتحت مظلتها، ثم عدلت ملابسها، وأحكمت نظارتها الطبية، احتضنت كتبها وهي تهرول نحو البوابة، خطت برشاقة بين أروقة الكلية.
خلال ثوانٍ وصلت إلى قاعة المحاضرات، جلست خلف مكتبها وراحت تجهز أوراقها، تأكدت بأن جهاز العرض يعمل مع السبورة الذكية، وضعت القرص المدمج في الحاسب الآلي لتراها تضيء أمامها.
أسندت ظهرها على مقعدها الوثير وهي تتأمل مدرج الطلبة، غاصت فيه لتنساب إلى ذهنها ذكرياتها القديمة.
منذ حوالي ستة أشهر، التحقت بهذه الجامعة معيدة بقسم التاريخ، بعد أن هاجرت من مدينة أوكلاهوما التي ترعرعت فيها، وحملت معها أيام طفولتها ومراهقتها، لتنتقل للعيش في مدينة شيكاغو.
أغمضت عينيها وأخذت تسترجع لحظة وداع والديها.
لقد منحهما الله كل شيء، ما كان ينغص سعادتهما حرمانهما من الإنجاب طيلة اثني عشر عاماً.
ولكن العالم ابتسم لهما أخيراً، فقد جاءت إلى الدنيا طفلة رائعة ذات بشرة بيضاء متوردة، كستنائية الشعر، خضراء العينين، ذات صوت جميل يملأ أرجاء المنزل براءة وعبقاً، أسماها والداها (جاسيكا)، أي المرأة التي تتطلع إلى الله.
كانت هي الإضافة المشرقة لحياتهما التي أنارت قلبيهما بالبهجة، ولكن سرعان ما مزقت سعادتهما خناجر الشقاء، حيث إنها ولدت بتشوه خلقي، حملت في كلتا يديها الصغيرتين ستة أصابع.
لقد عرض والداها مشكلتها على العديد من الأطباء لإيجاد حل لهذا التشوه، وربما بتر الأصبعين الزائدين، لكنهم أكدوا آسفين بخطورة هذا الأمر على حياة صغيرتهما، فإن أجروا عملية البتر لإحداها ستموت طفلتهما في الحال! فكل إصبع من تلك الأصابع متصلة عروقه بالقلب.
تنهدت (جاسيكا) بحرقة، وأخذت عيناها تذرفان الدموع. لقد تعذبت طويلاً، فلطالما سخر منها زملاؤها في المدرسة، وتعاملوا معها وكأنها مسخ.
استمرت رحلة مأساتها حتى المرحلة الجامعية. كانوا يتعاملون معها وكأنها مخلوق غريب، حيث وصموها باسم المرأة الأخطبوط. يا لصفاقتهم وقساوتهم، مواقف عدة مرت بها، عالقة بذاكرتها، لم ولن تنساها أبداً.
كانت تعليقاتهم الساخرة، وكلماتهم اللاذعة تخترق قلبها كالرصاص. إنها تتذكر جيداً حينما ذهبت في يوم ما إلى قاعة الخزائن الخاصة بمستلزمات الطلبة، أدارت مفتاح الخزانة الخاصة بها، لتجد عشرات الصور لهذا الكائن البحري. إنهم أوغاد فعلاً، ويتعاملون معها بازدراء طيلة الوقت.
كان والداها يتألمان من أجلها، ولكن لم يكن بمقدورهما أن ينقذاها من تلك الأوجاع. كانا يقولان لها إنها طفلتهما الرائعة، والهبة التي منحها اياهما الله.
وفي أحد الأيام، خفق قلبها بعاطفة الحب تجاه شاب إنجليزي وسيم، يدعى (ستيفن بن)، كان زميلها في ذات القسم، كم هو رائع ولطيف.
تساءلت في نفسها.. ماذا لو اكتشف الأمر؟! تصاعدت ضربات قلبها بقوة، وشعرت بالقلق يعتريها. جال في خاطرها شعور بأنه سيتركها ويتخلى عنها، ستنتهي حياتها لا محالة، وستنطفئ أنفاسها في صدرها للأبد.
منذ أن ابتعدت عن مدينتها ومعارفها، قررت أن تبدأ حياة جديدة. هي إنسانة طموحة وناجحة، الكل يحترمها هنا.. لم لا؟ طالما أنها تخفي كفيها بقفازين حريريين.
كانت تخشى أن تفقد حبيبها (ستيفن). ماذا لو عرف بحقيقة تشوهها؟ هل يا ترى سيتخلى عنها؟
طردت تلك الأفكار المسمومة من رأسها. هي تشعر بعشقه لها، بابتسامته وهمساته. لقد أعلن حبه لها ورغبته بالزواج منها. لم تعطه جواباً إلى الآن. أخبرته بأن يترك لها المجال لتفكر وتقرر.
لماذا لم توافق على الفور؟ هل كانت تخشى أن تخدعه؟
يجب أن تخبره بالحقيقة، ولكن، ماذا لو تخلى عنها؟؟
لقد تعرضت لصدمات وإساءات كثيرة، وفكرة أن يتخلى عنها (ستيفن) لا تستطيع أن تحتملها.
قطع حبل أفكارها أصوات الطلبة وهم يتوافدون إلى القاعة، البعض كان يهتف لها.. صباح الخير آنسة (جاسيكا).
مسحت دموعها بسرعة، علاقة صداقة وود تربط بينها وبينهم.. جميل، طالما أنهم لا يعرفون حقيقتها.
تذكرت بأن أحد طلابها علق يوماً:
ـ آنسة (جاسيكا)، أستغرب ارتداءك القفازات بشكل مستمر.. آسف.. أرجو ألا تعتبريني فضولياً! لكنهما يضيفان لك جمالاً وأناقة.
عادت يومها إلى منزلها، بدلت ملابسها، ورمت بجسدها المنهك على السرير. أخذ التفكير يزحف إلى عقلها رويداً رويداً.. تساءلت بحيرة، ماذا ستفعل الآن؟
تقلبت على فراشها، وشعرت بدموعها تنساب على خديها، وهي تخاطب نفسها:
ماذا أفعل حيالك يا (ستيفن)؟ هل ستتركني إن علمت بالأمر؟ أنا أحبك.. أحبك.
***
شعرت (جاسيكا) بفراشها يشتعل تحتها كالجمر.
لقد أطالت التفكير، اعتراها القلق، كيف ستبدأ معه الموضوع؟
أشرقت شمس صباح اليوم التالي، ونهضت بتثاقل.. لم تستطع النوم.
أخذت حماماً منعشاً وارتدت ملابسها على عجل. خلال ساعة واحدة وجدت نفسها بالكلية، دخلت إلى غرفة مكتبها لتضع أوراقها وحقيبة حاسوبها على الطاولة. خفق قلبها بقوة، وشعرت بأنها تعرضت لصعقة كهربائية، تسمرت نظراتها على صورة الأخطبوط الموضوعة على سطح مكتبها!
احتضنت يديها المخبأتين تحت القفاز، هتفت بانكسار:
ـ ألا يزال هذا الكابوس يطاردني من مكان إلى آخر؟ من فعل هذا يا ترى؟!
تهاوت على مقعدها، ثم قالت لنفسها:
ـ طالما أنهم يعرفون.. سيعرف هو بالتأكيد!
قررت بأن تذهب إليه، ستصارحه بكل شيء. توجهت إلى غرفة مكتبه لتتفاجأ به يخرج بصحبة فتاة.
شعرت بقلبها يخفق بعنف، اختبأت خلف الجدار، وأخذت تراقبه خلسة، كاد قلبها يتوقف وهي تسمعه يقول للفتاة:
ـ حمداً لله بأنك أخبرتني قبل فوات الأوان. لقد كنت على وشك أن أرتبط بوحش!
ثم هز رأسه وهو يقول:
ـ يا للهول، كيف كنت سأنجب منها أطفالاً.
شعرت بالدوار، وتمسكت بالجدار كي لا تسقط مغشيا عليها، أخذت تترنح خارج الجامعة، لتهرب إلى سيارتها عائدة للمنزل.
توقفت أمام باب بيتها، ونزلت من سيارتها وهي تنتحب بشدة. أخذت تمسح دموعها. كان قلبها يبكي كطفل، ربتت بكفها عليه، وكأنها تحاول إسكاته.
توجهت إلى غرفة نومها لترمي بجسدها على السرير، غطت وجهها بوسادتها، وانخرطت في بكاء مرير.
هي تدرك جيداً بأن هذا التشوه بتر أحلامها، ومزق أمانيها، أصبحت حياتها تنغمس في جحيم التعاسة والألم، دفنت آمالها وانتهى كل شيء.
نهضت من فراشها، وتوجهت ناحية المطبخ، ومن أحد الرفوف سحبت سكيناً لمع بريقها بقوة، انعكست ملامحها الحزينة على سطح السكين، ثم خطرت على بالها فكرة.


فاطمة النهام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى