فوز حمزة - مذكرات قرد في المنفى.. قصة قصيرة

في غاباتِ الصفصافِ الجنوبية .. الواقعة بمحاذاة أشجار الزيزفون .. في يومٍ ربيعي مبهج ..
ولدتُ لقردينِ شابينِ كانا يتمتعان بكلِ الصحةِ لينجبا ..
لكنهما لسببٍ لم يعرفهُ أحد تأخرا في الإنجابِ لسنواتِ طويلةِ ..
فكان مقدمي مَبعثَ سّرور لوالديّ وكل العشيرة التي فرحت بولادة ولي العهد مما جعلني مدللاً أنالُ ما أشاء دونَ معارضة .. فنشأتُ معتقداً إن العالم كله تحت أمري ..
عندما كبرتُ قليلاً بدأتُ بتسلقِ الأشجارَ وقطف ثمارها لأرمي بهِ كل قرد أراه .. صغيراً كان أم كبيراً .. ذكراً أو أنثى ..
بلْ أخذت بسحقِ كلَ شيء يقعُ تحتَ قدميّ وأشياء أخرى كنتُ أفعلها أخجلُ الآن من ذكرها ..
كلُ ذلكَ ولا أحد يَجرؤ على نهري أو حتى توبيخي .. فأبي الشيخ "رائيد" كانَ محترماً مهابَ الجانبِ .. ينصاعُ لهُ الجميع حتى أصبحتْ حكمتهُ في السلمِ وحنكتهِ في الحرب حديثَ غابتنا والغابات المجاورة ..
مع ذلك ..
لم يكنْ بمقدور أبي الوقوف في وجه أمي القردة " فتوح" سليلة الحسبِ والنسب عندما كنتُ احتمي وراءها بعدَ كلِ مصيبة أفعلها .. لهذا أصبحتُ مصدراَ للمشاكل بينهما .. بل وصلت بهم الأمور لتبادل الأتهامات في شأن تربيتي .. وأكثرُ من مرة يقررُ الاثنان الانفصال لكنْ سرعانَ ما تهدأ الأمور بينهما بعدَ تدخلِ الأهلِ والمعارف ..
عندما كبرتُ قليلاً عرفتُ أن هناك أسبابًا أخرى للمشاكل كنتُ أنا أصغرها .. فأمي لم تكنْ لديها هواية سوى إثارة الغيرة لدى الصديقات وافتعال المتاعبَ مما سببَ إحراجاً لأبي أمام وجهاء القبيلة .. لكنهُ بدلاً من أن يضعَ حداً لتصرفاتها .. أخذَ لقلة حيلتهِ إيجاد التبريرات لتصرفاتها ..
أما عبارة ناقصات عقل ودين فكانت الأشهر للتنصل من أي موقف يعصى عليه ..
وكما يقول إخوتنا من بني البشر " دوام الحال من المحال " فقد ماتَ أبي فجأة دون أن يعرف أحد السبب .. بالرغم من تأكيد طبيب القبيلة أن موت أبي حدث على أثر صدمة نفسية تعرض لها ..
دفن أبي نهاراً ليدب في الليل النزاع بين ابناء العشيرة حول المنصب ..
في الليلةِ التي اجتمعتْ فيها العائلة لتناقشَ الأمر وتبتَ فيهِ .. كان القمر فيها غائباً .. احتدتْ الأمور حتى وصلَ الأمر بعمي " سمعان " إلى ضرب عمي "سلوان" فلم يكنْ من الأخير إلا في إتخاذِ قراراً بهجرِ قبيلتهِ مصطحباً معهُ عمتي العانس "تسواهن" رغم أنهما لم يطيقا من قبلِ بعضهما .. لأن عمتي وبسببِ غيرتها كانتْ وراء طلاق عمي من زوجتهِ الجميلة .. لكنْ ما فعلهُ الاثنان يندرج تحتَ عنوان .. عدو عدوي صديقي ..
لأولِ مرةِ ينصتُ عمي لأختهِ حين أشارتْ عليه بالذهاب إلى الأسد "تاج الدين" .. ملك غابة إيسونومو التي تقع خلفَ النهر الكبير بمحاذاة أشجار القيقب وشرحِ الحال له علَّ قلبهُ يرقَ ويسمحُ لهم بالعيشِ معهم ..
لمْ تستغرق موافقة الملكِ طويلًا .. ليسَ بسببِ رحمته بل حكمته .. فحربٌ طويلةِ خاضها أفراد قبيلتنا مع سكان غابتهِ راح ضحيتها آلاف الخرافِ السوداء والبيضاء والحمراء دونَ التوصلِ لحلٍ نهائي وجذري للتسوية هو السبب وراء موافقتهِ .. فها هي الأسرارُ جاءتهُ تسيرُ على قدميها لتنحني أمامه وتقدمُ خدماتها مجاناً ..
رعاية الملك والسهرِ على راحتهِ وتلبية طلباته .. لم يتركا لعمي "سلوان" وقتاّ لأي شيءٍ آخر .. الحقيقة إن عمي لم يكنْ قرداً طموحاً فرضي بما وصل إليه وفرح به .. في حين أن عمتي وجدتْ الوقت الكافي والجو المناسب لممارسة هوايتها الوحيدة في زرع الفتنة بين أي حيوان وزوجتهِ ..
كان على العمة توثيقِ علاقتها بزوجة الملك من خلال تقديم خدماتها المجانية في قراءة طالع الملكة وبيان ما سيحدث لها من تغييرات في المستقبل وأكدت عمتي ذلك لأن الملكة مولودة حين كان برج الجدي يستعد للدخول في العذراء .. مما يعني حصولها على كل ما ترغب ..
الخطوة الذكية التي قامت بها عمتي تجاه الملكة أتتْ أكلها .. فقد أصبحت بين ليلة وضحاها الصديقة المقربة واخت الملكة التي لم تلدها أمها .. بالرغم من أنه لا شيء في الكون قد يجعل من قردة أخت لملكة .. لكن للنساء شؤون لا أحد يتمكن من حل ألغازها ..
هاهو الحظ يبتسم أخيراً .. ففي إحدى النهارات الربيعية الجميلة وبينما كانت العمة مستلقية على أغصانِ شجرة في حديقة الملك تتأمل السماء وتفكر في حبيبها الذي هجرها من أجل قردة أجمل منها .. شعرتْ بحركةٍ وأصواتٍ تحتها .. إنها صديقتها وولية نعمتها .. حرصتْ على ألا تحدثَ ضجيجاً قد ينبهُ زوجة الملك التي كانت متكئة على جذعِ شجرة تين عجوز ترتشف قهوتها الصباحية وتتحدثُ بهاتفها النقال ..
في ثوانٍ .. تحول جسد عمتي كلهُ إلى آذان صاغية .. توردتْ وجنتاها والتمعتْ عيناها وكأنها وجدتْ كنزاً أثمن بكثير من عريس هارب وحبيب خائن .. فهمسُ الملكة الذي تحولَ بعد قليلٍ إلى كلامٍ مسموعٍ جعلَ عمتي تكتشفُ سراً خطيراً قد يهدمُ العرشَ فوق رأسها ..
لقد عرفتْ عمتي أنَ للملكة عشيقاً ..
تحولَ رأس عمتي إلى جهاز حاسوب متطور جداً يعمل بكل الأنظمة ..
لم تنسْ كلمة واحدة من كلماتِ الغزلِ والحبِ غير العذري الذي سمعته الآن .. كيف تنسى الشيء الذي سيجعلها في مصاف الأميرات وربما الملكات .. فأحلامُ عمتي ليس لها حدود .. بالرغم من إنها كانت تريد من وراء ذلك الحفاظ على سمعة الملك وليس شيئاً آخر .. هذا هو تبريرها الذي ستقوله للملك حين يقدم لها أثمن هدية .. شيء واحد نغصَ عليها فرحتها .. هي عدم معرفة من يكون هذا العشيق .. لكنها في النهاية اكتفت بهذا الإنجاز في هذا الوقت ..
لم يعدْ الملك من رحلة الصيد إلا بعد أسبوع .. بدأت الطبول تدق والمزامير تعزف .. فجلالته محبوب من الجميع.. الملك بدوره استقبلَ رعيته وإمارات السعادة بادية على ملامحه .. إلا أن عمتي القردة "تسواهن" لم تستطع الانتظار .. كنزها الذي تخبئه منحها الجرأة لتقتربَ وتطلبُ مقابلتهُ على إنفراد لأمر جلل يخصُ شرف المملكة وسيادتها ..
ثلاثةُ أيام مضتْ قبلَ أنْ يأذنَ الملكُ " تاج الدين " لعمتي بالدخولِ عليه .. لا أحد يستطيع التكهن بمعاناة عمتي خلالها .. لقد جندتْ كلَ جواسيسها والخدم الذين يسهل رشوتهم لينقلوا لها كل مايمكنه أن يفيد موقفها في القضية ..
هيبة الملك ووسامته التي لا يتنازع عليها اثنان أجبرتْ عمتي لأن تطيل النظر في وجهه وهي تتخيل اليوم الذي ستصبح فيه عروسه .. نظرت إلى كرسي الملكة وتخيلت نفسها جالسة عليه .. يبدو واسعاً .. لكن لا بأس .. دائماً الحلول موجودة ..
شيء جديد لم تكنْ تعرفهُ العمّة عن الملك أدركتهُ الآن .. كان حكيماً .. يستخدم أذنيه أكثر من لسانه .. لا يتخذ قراراً إلا بعد تفكيرٍ وتمحيصٍ .. وهذا ما جرى عندما ودّعَ عمّتي وشكرها بعد الوعد الذي قطعه لها بأن كل شيء سيكون بخير ..
نسيتُ أن أخبركم عن هدية الملك لعمتي .. عقداً من اللؤلؤ الأبيض تتوسطه ماسة كبيرة ..
نامتْ عمتي تلك الليلة وهي تحتضنُ وسادتها الخالية .. رأتْ في منامها الملك " تاج الدين " يمسك بيدها ليعلنها زوجة له ويطلبُ من الحاشية تقديم فروض الولاء والطاعة لسيدتهم الجديدة .. أما هي فقد عملتْ كل ما تقدر عليه للانتقام من أبناء عشيرتها اللذين لم تر منهم سوى الخذلان ..
في فجر اليوم التالي .. بينما وقفتْ الحشود تحيي مليكها وتدعو له بأن يسدد الله خطاه وتدعو للجواسيس بالموتِ وتتوعد كل مَنْ تسولُ له نفسه بالتطاول على سيادة المملكة العظمى ..
أمر الملك بإعدامِ عمتي تسواهن وتركُ جثتها معلقة بأغصانِ نفس الشجرة التي تنصتتْ منها على سيدتها حتى تكون عِبرة لغيرها ..
في نفس اللحظة .. كانتْ الملكة الموقرة بنت سيد الأسود حاكم الغابات الجنوبية كلها .. تكلمُ عشيقها من " الأيفون12 " الذي اهداهُ لها الملك بعد عودتهِ من رحلة الصيد كتعبيرِ عن اشتياقهِ وولههِ بِها ..
قامَ الملكُ بفرض حصاراً أقتصادياً قاسياً كنوعٍ من العقوبة لتطاولنا على مملكته ..
أما نحنُ .. مجتمع القرود .. بعضنا هرب لسفوح الجبال أو عبر البحار .. والبعض الآخر لم يجد غير طلب المغفرة من الملك وتقديمِ كلَ ما منْ شأنهِ أثبات ولائنا ويؤكد إننا لم نزلْ قردة ..

- فوز حمزة -


  • Like
التفاعلات: أمل الكردفاني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى