د. سيد شعبان - عرجوب في السوق

على غير عادة انتابت عم مخلوف حالة من شجاعة عارمة، فابتدر زوجته أم الخير وقد تثاقلت في نومها، اليوم سوق ويوم يسبتون تأتيهم مطالب الأطفال مشرعة على أسنة من الحاجة التي لا يصلح معها التعلل بضيق اليد، وليتخلص من كثرة مطالبهم ببعض فاكهة ،باع أمس نصف إردب من خزين القمح؛ الحصاد على الأبواب فلا يمنع من أن يتخفف مما لا حاجة به، هكذا يقنع نفسه، عبر الشارع العريض دلف إلى حيث يفترش الباعة ، هاهو الآن ينتشي بمائتي جنيه، وضع في الحافظة بطاقته، تسلل إلى كراسة ابنته انتزع منها ورقتين مزدوجتين، امتلأت الحافظة، في زهو مغر أمسك بعصاه التى بدأت تتراقص في يديه، لقد صار صاحب مال، البائعات يغرين بحلو حديثهن، تلك تبتسم له وأخرى تناديه بلقب يتمناه : تفضل يا عم الحاج!
أخذت الأحلام المؤجلة بأن تطبخ أم الخير اللحم تقترب من أن تكون حقيقة، لقد أكل الجوع بطنه، قليل من المرق يصلح، فليس من المعقول أن يضع كيلو اللحم مرة واحدة في ذلك الوعاء الذي سودت النار قعره، سيطالبها بأن تشوح الباقي لمرة قادمة، هكذا كانت تفعل أمه ،تسمع صوت الجزار وجده يزن لشيخ البلد نصف كيلو، تعجب ؛ غير معقول، اختبأ منه، وهل له أن يظهر غناه أم ذلك اللئيم الذي يختلس من مخزن الجمعية الزراعية؟
انصرف على موعد أن يزور الجزار، نظر في الخضروات، تاقت نفسه أن يشتري موزا، أو حتى البرتقال، وبضع حبات من التفاح الأمريكي فالمش ضرب جدار بطنه، الصغار يلحون عليه أن يشتري لهم كما يفعل أبناء الجيران، منى ابنته تود لو تفاخرت بحبة منه أمام زميلاتها في المدرسة،اقترب السوق من نهايته لم يشتر شيئا، هناك من يتبعه مثل ظله، الولد عرجوب له عين نافذة، حين مر من أمام دكانة شملول تاجر الحبوب، وقعت عينه على عم مخلوف وهو يزن القمح، ولأنه ماهر شاطر يعرف الدهاء سبيله إليه ، ابتدر عم مخلوف بتحية منمقة، أخذ بحبل الحمار، أفسح له، بل وأظهر مزيد عناية به، شمس الضحى ارتفعت قليلا بدأ الذباب يصدر طنينه، يعزف سيمفونية الفقر الذي يختال بين قوم علا الهم وجوههم،أشار عليه عرجوب أن ينزل عند جدر العتوالة ، ذلك موضع في السوق يجلس عنده الوجهاء، وجدها فكرة طيبة؛ إنه اليوم يحمل حافظة بها المال!
نسي ما كان من اللحم وحبات التفاح، انتهزها عرجوب فرصة، احتضنه جيدا فعم مخلوف رجل طاعن في السن، وبمهارة لا يحسد عليها عرجوب كانت الحافظة في قرارة جيبه ، تخلص منه في سرعة، وعده أن يأتي إليه؛ ليساعده في شراء حاجات السوق، ضرب عم مخلوف يده على سيالة جلبابه الأزرق، لقد أصبحت هباء تذروها الريح، أكلته الحسرة ضاعت منه فرحة نهاره؛ أن يدخل البيت وقد علا شاربه، وليلة تزهر فيها أم الخير وتزدهي مثل بدر التمام، حين يلمع مضيئا من نافذة جدارهم الطيني قبالة شجرة الصفصاف.
قطع الحمار الحبل، وإمعانا في السخرية منه أصدر نهيقا متواصلا، رفع أذنيه، وبقفزة بهلوانية ضرب الأرض برجليه الخلفيتين ثم فر موليا، ومن خلفه يلهث عم مخلوف، فقد ضاع السوق وجن الحمار!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى