بهاء المري - الزوجة.. قصة قصيرة

لم أعبأ فى أثناء سَيْري فى شارع سعد زغلول المُزدَحِم إلا بموضع قدمي، يكفي أن أمُرَّ بسلامٍ من بين المُتسَكِّعينَ وهُواة الفُرجَة على الفاترينات، كنتُ قادمًا من المنشية مُتعجِّلاً لألحقَ بميعادٍ هام فى فندق سِيسيل فى نهاية الشارع، يدٌ تمتدُّ من الجانب الأيمن لتلمس كتفي.
لم أصدِّق المفاجأة، أهذا معقول؟ هيَ أمامي بعد مرور تلك السنين الطُّوال؟ ووسط هذا الزحام تراني ولا تتجاهلني؟ أنا الذي لم أدرسُ بعناية اقتراحها منذ خمس عشرة سنة للحفاظ على حُبنا؟
تسمَّرتُ فى مكاني، لم أعبأ بتلك الأكتاف التى تَضربني من اليمين ومن الشمال، وهى تتماوَج لتَمُرّ من بين هذا الزحام، في لمح البَصَر داَرت برأسي هذه التساؤلات المتلاحقة، ألجَمَتْني المفاجأة، حتى كأنَّي باسمها قد غاب عن ذاكرتي ؟
لاحظَتْ مُفاجأتي وتًلجْلُجي بالقول، لم تَعرف أنَّ عبَق أنوثتها تغَلْغَلَ فى أنفي لحظة وقوع نظرتي على مُحيَّاها، قالت :
- ما بكَ ؟ لِمَ تَشُقُّ طريقكَ مُتسرِّعًا هكذا ؟
قلتُ :
- لا شيء .. لا شيء، أهلا بكِ.
فى التَّو امتثلَتْ أمام عيْنيَّ صورة لقائِنا الأخير، يا للمفُارقة، كنَّا فى مَحل البُن البرازيلى الشَّهير، فى نفس هذا الشارع بعد جلسة عاصفة، لم تكن الجلسة الأولى لنتحدَّث فى أمر سفرنا معًا للخارج، جامعة شهيرة قبلتها للتدريس هناك وقالت ربما استطعنا أنْ نجدَ لي عملاً فى أية جامعة، قلتُ لها يومها:
- لا أستطيع السَّفر تحت زَعْم "رُبَّما" وهى مسألة لا جدال فيها مرَّة أخرى.
يبدو أنها كانت قد اتخذَتْ قرارها بالنسبة لها؛ سواء رافقتُها أو لم أرافقها، حاوَلْتُ إثناءها عن رغبتها، وحاولَتْ هى إثنائى عن تصْميمي ففشلنا، لم تَطُل المناقشة حينذاك، قالت بعدها عبارة واحدة:
- إذَن فلتسْتمر صداقتنا، صداقة اثنين جمعهما ذات يوم حُب صادق.
تهكَّمْتُ ساعتها على كلمة "حُب" وضحكتُ ضحكة ساخرة آلمها وقْعُها، دمعَتْ عيناها فى صمتٍ وأطرقَتْ ثم رفعتهما؛ لتنظر فى عينيَّ وتقول بصوتٍ هامس حزين :
- لا تسْخَر.. فقد أحببتكُ منذ أثَرْتَ انتباهي وحرَّكتَ مشاعري، دقَّ قلبي على يديكَ لأول مرَّة فى حياتي، أيقَظْتَني من غفوَتي، زلزَلْتَ كياني، اقتحَمْتَ علىَّ قلبي؛ وملَكْت زمام أمره، أحببتُكَ بصدق أيها المتغافل، حتى فى اختلافنا؛ كنتَ تُجيدُ لُعبة الشطرَنج معي، كُنتَ تتصدَّى لكل قطعة أحرِّكُها لتجعلَها تستقر فى النهاية بين يديك.
أحببتكَ وكنتُ أشعرُ أنكَ لستَ أهلاً لحُبي، كم دعوتُكَ لتُطلِق سَراحي؛ ولكنكَ أبيْتَ إلا أنْ أظل محبوسة بين ثنايا قلبك، إنِّي أتألم الآن من أجلي ومن أجلك، فلا تَقْسُ أكثر من هذا، ربما ذاتَ يوم نلتقي، فلنُبقي على ما كان بيننا وإنْ انقطعَتْ لسببٍ أو لآخر علاقتنا، وبعدها علمتُ أنها سافَرتْ وتزَّوجتْ وعاشَتْ هناك.
صحَوتُ من ذُهولى أمام قامَتها التي لا تزال تشمَخ مدَدْتُ يدي لنتصافح، فإذا بيدها الممدودة كانت تسْبقني اتَّسَعَتْ مساحة ابتسامتها وازداد تهلُّل وجهها وهمسَتْ:
- كيف حالكَ؟ وما أخبارك ؟.
دغْدغَتني ابتسامتها، سحَرتني الهمسة التى نطقَتْ بها اسمي، ذات النَّغم الذى تحفظه أذني، وأكمَلَت:
- أنتَ كما أنتَ لم تَتغيَّر، عدا بعض البياض الذى تسلَّلَ إلى شَعرَك.
تلاشَى عندي الإحساس بالمكان والزمان، لم أستطع كتمان مشاعرى وسط هذا الزِّحام، نظرتُ فى عينيها أغمَضَتهمُا وكأنها تريد أن تُطبق على هذه اللحظة، شدَدْتُ على يدها؛ شدَّتْ على يدي، سألتها :
- ألا زلتِ تذكرينني ؟
- وهل أنتَ تُنسَى؟ يبدو أنكَ الذى نسَيت.
ما الذى نسيتهُ؟ تساءَلْتُ بيني وبين نفسي ، حُبّها لي أمْ شوقي اليها؟
لم أجد ما أقولُه بعدها، كل ما لاحظْتُه أنها ارتدَتْ حِجابًا، قلتُ لأخفى ارتباكي:
- وأنتِ زادَكِ الحجابُ جمالا.
كانت هى فوق الرصيف فجذبَتني برفقٍ إلى أعلى، نسيتُ أنَّ يدها كانت بين يدىَّ منذ بادرة اللقاء، استدرنا حتى أصبح ظهرنا للمارة، لم تزَل تقبض على يدي، لم أدْرِ كم من الوقت مَضَى.
مرَّ أمام ناظرىَّ شريط الذكريات، كم مشَيْنا فى هذا الشارع من قبل، كم غازَل هواء البحر شَعْرها فكان يتطاير ليلمسَ كتِفى.
أما هي؛ فقد شعرَتْ بغرابة حُبنا، هذا الحب الذى وإن طال عليه الزمان؛ لم يزل يضرب بجذوره فى أعماق روحنا والذى إنْ اعتقدنا أنَّ النسيان طواه مع سفرها وهجرتها الوطن؛ وزواجها من دبلوماسي شهير، لم توقفه الأيام، فقد قطع توقفه هذا اللقاء القدَريّ وعاد للسَّريان من جديد، فلم تنسَ دفقاته التي كانت تندفع من أعماق شبابها، كل ذلك كان جليًا من نظراتها وابتسامتها.
يدٌ تنقُر ظهري من الخلف، لم أشعر بها لولا أنها نبَّهَتْني سَحبتُ يدي من يدها .. استدرتُ إلى الخلف .. زَوجتى وقد عادت من عملها الكائن فى نهاية هذا الشارع، سألتُها:
- متى جِئتِ ؟
قالتْ :
- منذ ابْيضَّ شَعرُك !


بهاء المري


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى