حسن إمامي - مقام صنع القدر

بائع الإسفنج، رمز ثقافي واجتماعي كبير في المدينة. قد لا يولي الناس الاهتمام لشخص البائع خارج أوقات بيعه وشرائه. يصبح مثل عامة الناس، له علاقاته، كما له حياته الخاصة. لكن اشتهاء الإسفنج للأكل أو انتظار نوبة الحصول على الكمية المرادة، وطقوس تحضيره ووضعه في سطل معدني خاص أو طست مناسب كعجين، ثم بعد ذلك، لمسة المْعَلّْمْ البائع ـ وحيث إن كل متقن لحرفته وتجارته يسمى بالمعلّْم، دلالة على الإتقان والنجاح فيها وحسن تصريفه لها تجاريا واجتماعيا وعلاقاتيا، وكذا اكتساب شخصية ماهرة بفضلها، وتميُّزٍ بأخلاق فردية وخطاب شخصي وعادات مرتبطة بها ـ كل هذه الخلفيات الذهنية تكون حاضرة عند الوقوف أمام الدكان، والنظر إلى المعلْم وهو يقتطع جزءا من العجين باستدارة سبابته وإبهامه، وتحويله بإبهام اليد الأخرى إلى قطعة مستديرة ستخضع إلى وضعها فوق زيت ساخن تُقلى عليه، فتبدأ بالوضع على جانب المقلة التي عَمّْرت لسنوات وعقود، واتخذت من أشكال جانبية لا تجعل البياض إلا داخل مجال القلي بالزيت بداخلها. ثم بعد ذلك يستعمل الخطّاف أو المُخطَف أو المخطاف بلهجة أهل البلدة، والذي يكون برأس مسهم ومعقوف، يحرك به دوائر الإسفنج فوق صحن القلي الحديدي (المقلة). كلها طقوس يستمتع بها المنتظر صباحا لشهوة فطوره التي أرادها بالإسفنج.
تكون الرائحة جاذبة له، ويكون خيط الدوم الذي يستعمل لحمله فيه حُلَّة احتفالية، تنتظرها كل عائلة فكرت واختارت أكل الإسفنج، محضِّرة صينية قهوة بالحليب أو براد شاي، في انتظار مجيء المكلف بشراء الإسفنج من عند المعلم الخياط، والذي ليس بخياط في حرفته، فقط هو اسمه أو لقبه.
في هذا الجو الصباحي الباكر، خرج السي الكبير بفوقية خفيفة، لبِسها، ووقف منتظرا دوره في عملية الشراء التي يَحضُرها هذا الصباح ستة أشخاص هو سابعهم. هي السابعة صباحا تقريبا، وبداية بيع الإسفنج تكون بعد صلاة الفجر بحوالي الساعة إلا ربع. فأول دكان يبدأ عمله بالبيع والشراء هو دكان الإسفنجي. وقد ندُرت الحرفة مع بداية تسعينيات القرن العشرين فأصبحت قليلة، ولم يعُد موجودا في ممارستها سوى المعلم الخياط وشاب جديد آخر غامر ونجح في الاستمرار فيها في شارع خارج ساحة السوق، بعد أن كانوا أربعة معلمين يبيعون الإسفنج.
من صدف هذا الصباح، مجيء الفقيه الملقب ب( بودومة) لشراء حصة إسفنجية، بجلابته الزرقاء الشاحبة اللون، وطاقيته الصفراء الباهتة، وعينه اليسرى الشبه نائمة والتي لا تستطيع تمييز فتحتها إلا نادرا حين طول حديث وحوار معه. هو الفقيه الطالب، الحافظ للقرآن الكريم، القليل الكلام، ولكنه الكثير المشي والتجوال. يكون هذا المشّاء حاملا بشكل شبه دائم لخيط دوم صغير أو عود يابس رقيق وأصفر ـ غالبا من عيدان حصير ـ قابضا له بين أنامله، وواضعا له بين الحين والآخر بين شفتيه، في جانبهما الأيسر. قد يقبض على العود بيده اليمنى، كأنه محفز انتباه ومنذر من غفلة ومنبه في الطريق. قصة الفقيه بودومة فيها غرابة وجهل نسبي. فهو لم ينشأ ويكبُر في طفولته وشبابه بالمدينة. إنما كان مجيئه إليها واستقراره بالبلدة وهو مشرف على عقده الثالث، متزوج من امرأة من بلاد الغرب وسهوله الفسيحة، ومخترق للنسيج الاجتماعي والمجتمعي من خلال حلقات قراءته للقرآن بالمسجد الكبير بعد صلاة المغرب وصلاة الفجر، ومن خلال قراءته لكلام الله كذلك في المقابر أيام الجمعة خصوصا أو حين ذهابه في جنازة ما.
وتتكاثر الحكايات حول الغريب، حيث يكون مادة دسمة للحوارات الفضولية اليومية، ولِمُحبّي الاكتشاف لغرائب الحكايات. أما أغربها والذي شاع، فهو نعته بحكمته في دومته، ولذلك سموه بالفقيه بودومة. فهو يستطيع محاورة الجن بها، ويستطيع الاستدلال على طريق كنز ومكانه بفضلها، ونشر بركة تلاوته للقرآن بفضلها كذلك.
هكذا أصبح الفقيه بودومة عند كافة الناس صارع جن ومحاورها. كما أصبح تفسيرا عند الناس لسِرّ سكوته وصمته الدائمين وعدم وجوده متكلما بين أفرادهم. نادرا ما يتكلم، نادرا ما يكون برفقة اجتماعية، نادرا ما تجده واقفا بمكان لمدة زمنية طويلة. لا تراه إلا وهو مار في طريق. يمشي ويمشي، حتى إن خطواته دائما تسمَع عنها أنه قام بها آتيا من جولة خارج دروب المدينة، بين جنبات واديها وجبالها ومقابرها، والتي هي كلها طرقات معبدة وصغيرة يستعملها الناس في حياتهم اليومية كما في نزهاتهم الطبيعية ارتماء في أحضان منحدرات جبال زرهون كأنها أحضان امرأة بصدرها الحنون ودفئها الدائم الذي توفره هذه الطبيعة بهدوئها ومتعة اخضرارها وخرير مياهها، هذه التي تنساب متسللة، منحدرة بين صخور ومنعرجات الوادي العميق الآخذ في الانحدار حتى يصل بعد كيلومترات إلى منبسط سهل خومان، فيتحول من ضيق إلى توسع مسار وضفاف وهدوءٍ كمن كان مسرعا في مشيه حتى وجد بساطا ارتمى على صفحته. ذلك وادي خومان ونهرُه الذي عزف على وترٍ وشريطٍ بين جبال مسبح الحامة وزرهون..
كان سلام سي الكبير، سلاحه الديبلوماسي الذي يخترق به كل شخصية، ويزيل به عقبات التواصل معها. بين نحافة جسم الفقيه بودومة وضخامة صدر السي الكبير، كانت مبادرة السي الكبير بفتح ذراعيه ووضعهما على جنبات كتفي الفقيه بودومة وتقبيل رأسه وجبهته، وتخليل كل ذلك بكلام توقير وتبجيل:
ـ تبارك الله على سي الفقيه ديالنا... الله يخلّيك بركة لنا، وينفَّعنا ببركتك وبكلام الله الذي تحمله في صدرك. صباح مبارك ومسعود هذا الذي هلّ علينا بطلعتك.
ـ الله يبارك فيك آ سي الكبير. لهلا يخطيك علينا آ الشريف.
يرفع المعلم الإسفنجي عينيه كما مخطافه، متابعا لمشهد السلام، مخفيا مع ابتساماته المتدرجة استنتاجاته الخاصة التي لن يكشفها إلا في إحدى جلساته خارج مجال العمل والتجارة.
ـ سي الفقيه، صباح الخير... يبادر المعلم الخياط الإسفنجي هو الآخر للقيام بالسلام الواجب للوافد والزبون الجديد.
ـ واحد النصف كيلو اسفنج آ سي الخياط.
ـ مرحباَ آ سي الفقيه .
في الانتظار وخلاله، ينفرد سي الكبير بالسي الفقيه بودومة في مسافة عن باب الدكان، بعيدا عن الحاضرين والواقفين من المشترين المنتظرين.
ـ سي الفقيه، أريدك أن تقوم بعمل فيه الأجر في الدنيا والآخرة.
ـ مرحبا آ سي الكبير. اُؤمر انعماس (نعم يا سيدي).
ـ أريدك أن تذهب كل يوم لضريح سيدي امحمد بن قاسم في الصباح، بعد الفطور. خذ وقتك. تقرأ بعضا من كلام الله على قبر الضريح. أنا سأعطيك بركة من النقود كل نهار. حينما تنتهي، مُرّ علي بضريح سيدي مولاي إدريس. سأعطيك خمسة دراهم في اليوم. ها أنت، عندك الخيار. يالله، غير ثلاث مرات في الأسبوع حتى لا أتعبك بالذهاب إلى هناك. الأفضل، أيام الاثنين والخميس والجمعة.
ـ ما كاين باس آ سي الكبير؟
ـ لا، فقط، وقف عليّ سيدي محمد بن قاسم في المنام، وطلب مني أن أتفكره بالقرآن وبصدقة من الطعام على المساكين في مقامه، وأهداني صندوقا لامعا بزخرفته. لا أدري ما سره. لا تنس، راهْ لعيالات والنساء يذهبن له. أكيد غادي يعطيوك شي بركة هناك.
ـ إيوا آ سي الكبير، تبارك الله عليك. هذه هي النية الصافية وإلا فلا.
ـ سيكون بيننا كلام طويل وطعام غزير في ذلك المقام إن شاء الله. الله ينفَّعْنا ببركته وبركتك آ سي الفقيه. راه الناس في البلاد كلهم يحترمونك ويرجون بركتك. أنت من أولياء الله والفقراء الصالحين.
ـ الله يجعلنا من الذين آمنوا واتقوا وحمدوا الله على نعمته وقسمته وحسناته.
ـ آمين يا رب العالمين. صباحك مبروك آ سي الفقيه. الدور عليّ في شراء الإسفنج الآن.
ـ صباحك مبروك آ سي الكبير. الله يرحم لك الوالدين، ويزيد في الخير على يديك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى