أ. د. أبو الحسن سلاّم - ارتباك النقد المنطلق من نظرية لا تطابق النص المسرحي

كثيرا ما يرتبك النقد عندما يتأبط الناقد نظرية جاهزة ويشرح بها عمل إبداعي نصا أو عرضا أو لوحة تشكيلية أو عرضا مسرحيا دراميا أو عرضا راقصا
وهذا المبحث من كتابي ( المخرج المسرحي والقراءة المتعدد للنص ) - ط ثانية 2004
في موقف الناقد د. أحمد شمس الدين الحجاجي النقدي من نص مسرحية ألفريد فرج ( الزير سالم ) التي تناول فيها قصة ( المهلهل بن ربيعة ) التي التقطها من كتب السيرة وصاغها وفق المنهج المسرحي الملحمي ، تحت عنوان ( الزير سالم ) فصدمت إعادة كتابته لتلك السيرة في أسلوب مسرحي أحد النقاد الباحثين وهو د. أحمد شمس الدين الحجاجي فعبر عن عدم رضائه عن شكل تناوله للسيرة الشعبية .
إلاّ أنني على الرغم مما قاله عن ألفريد فرج من أنه قد " وضع أكفانا جديدة حول السيرة " أرى أن ألفريد فرج قد تمثل الاتجاه المسرحي الملحمي خير تمثل ، على الرغم من اعتراض د. حجاجي من أن " هؤلاء الكتّاب المسرحيين الذين تمثلهم كاتب السيرة لم يستطع أن يتفوق عليهم أو يحتويهم وإنما النقيض من ذلك ، لقد تفوقوا عليه " وكأن التفوق هو المطلوب مجرداً . كانت أمامه نماذج مسرحية سابقة يحاول تقليدها أو السير على هديها مما أفقد العمل بعض أصالته " يقصد ( السيرة ) ذاتها . وكأن التراث حين يستلهم مقصود به إلى ذاته . فالكاتب حين يعوّل على التراث فإنه في الحقيقة يعيد صياغة الحدث إسقاطاً على الحاضر المعيش ؛ بهدف التأثير به على الحاضر نفسه ، واستشفاف المستقبل .
إن الحادثة التاريخية المستلهمة من التراث لا تشكل سوى وسيلة يفاد بها في الحاضر المعيش . يقول د.عز الدين إسماعيل : " إن كل عودة إلى التراث تحمل منظوراً مغايراً ، يعدّل اتجاه الماضي ويسهم في إضافة بعد تفسيري من صنع الحاضر نفسه "
على أن كل ما يهمنا مما كتب د. الحجاجي في دراسته تلك ، هو قوله : " إن ألفريد استلهم التراث بطريقة بريختية فلم يخدم التراث وإنه في طريقته تلك قد بنى المسرحية حول استرجاع الماضي محاولاً بذلك أن يحوي السيرة كاملة وأن يجعلنا نعيش في جوها بالطريقة السردية للأحداث غير المترابطة "
وهذا الذي يقوله د. الحجاجي من خواص المسرح الملحمي الذي يعد المؤلف أحد المتأثرين به في الوطن العربي . وإنه انطلاقاً من هذا الفهم ، حين استلهم المؤلف التراث الشعبي أراد أن يحمله منظوراً مغايراً ويضيف بعداً تفسيرياً للحادثة التاريخية أو اللقطة التراثية كشفاً عن تناقضاتها . من هنا اختلفت الفكرة وإيقاعها في المسرحية عنها في السيرة الشعبية المستلهمة . وكلمة استلهام التي يرددها الناقد تعني ذلك بالضرورة . يقول " وإذا كانت فكرة العدل قد وضحت في السيرة أكثر من وضوحها في المسرحية ، فإن فكرة الحقيقة تاهت وسط دروب فلسفية أراد المؤلف أن يحوطها بها " .
ولما كان ألفريد فرج - هنا - ساعياً إلى كشف طبيعة العلاقات وطبيعة الأفكار من خلال الحياة اليومية البشرية للشخوص المكونين للحدث أو للحادثة التاريخية ، فإنه يستعرض الأفكار التي تبنتها الشخصية المتصارعة دون أن يبرز فكرته من وراء ذلك إلاّ في نهاية ( الحدوتة ) التي جعلها افتتاحية لمسرحيته تلك وفق تقنية دائرية الأسلوب . وفي هذا تأكيد لخواص الدراما حيث يبدأ الحدث حينما تنتهي ( الحدوتة ) . وبالنظر إلى مسرحية ( أوديب ) وتقنية كتابتها ندرك صحة ذلك .
وبالمثل تبدأ مسرحية ( الزير سالم ) حينما انتهت ( حدوته الثأر بين بكر وتغلب ) :
" مرة : الآن يا ولدي . حضر أمراء بكر وأمراء تغلب
وتصالحت القبيلتان على مبايعتك والولاء لك .. "
فهذه كما قلت بداية درامية ، حيث تبدأ المسرحية بعد انتهاء القصة . ولكن أسلوب الكاتب كان أسلوباً ملحمياً ، لذلك عليه أن يغير النمط الإيقاعي الذي يناسب الدراما في شكلها الأرسطي ليرسخ نمطاً إيقاعياً آخر يلائم الدراما الملحمية ، حيث يضع المتلقي في وضع يؤهله للحكم على ما عرض أمامه عن طريق تجميع خيوط الحدث وملابساته وطبيعة الصراع والمتصارعين ، والقضية المتصارع عليها ، وعليه أن يظل محايدا حتى النهاية ، وعندها أو بعدها يضع رأيه محدداً - يقرر بينه وبين نفسه إلى أي المواقف ينحاز - لذلك فإن .. ( ألفريد فرج ) يبدأ بعد النهاية في كشف طبيعة صراع جديد ترتب على النهاية التي سبقت هذه البداية ، مستخدماً أسلوب البناء الدائري للحدث :
" جليلة : ( تلمسه بحنان ) ولدي .
هجرس : ( يشيح عنها ويبتعد خطوة )
مرة : ( مسترسلاً ) بكوني سيد قبيلة بكر ؛ وجدك لأمك جليلة ؛ وعم أبيك الراحل كليب سيد قبيلة
تغلب وملك جميع العرب القيسيين ، بكريين وتغلبيين .. سأجهر بالمبايعة - وعندئذٍ تدق الطبول ،
ويرفع فرسان القبيلتين السيوف حتى تتلامس أطرافها في ود لأول مرة منذ سبعة عشر عاماً -
إكراماً لموكبك وأنت تتقدم إلى عرش أبيك ، عرش جدك ربيعة أخي ، لتتخذه كرسي مملكتك ،
إيذاناً بأن أعمامك التغلبيين وأخوالك البكريين ارتضوا أن يكونوا لأوامرك طائعين ، ولأحكامك
خاضعين . تقدم يا ولدي .
جليلة : ( بحنان ) تقدم
هجرس : ( بانفعال مكظوم ) لا أريد هذا العرش يا أمي .
جليلة : آه .
هجرس : ( بانفعال مكظوم ) بتّ طول الليل أفكر . ( يصيح ) عرش على بحيرة دم . العرش .. ولا أعرف
حتى لماذا قتل خالي جساس ابن عمه الملك وأبي .. أو لماذا انتقم منه عمي الأمير سالم
بهذه المقتلة الفظيعة .
جليلة : لا تلق أسئلة تستنفر الأحقاد
هجرس :إنما أسأل لأفرغ الصدور من الأحقاد
جليلة : عادة غير ملكية . الملوك لا يطرحون الأسئلة يا ولدي ، بل يجيبون عليها .
أسماء : ارتق العرش وأنت مغمض العينين . كن ملكاً جيداً .
( تضحك في تهكم صاخب ) "
ولأن المؤلف هنا لا يؤمن بثبات الظاهرة ، على أساس أن كل ما في الوجود في حركة مستمرة ولا ثبات لشيء ؛ لذلك فإن ما كان معتاداً يجب أن ينظر إليه على أنه غريب ، وغير طبيعي عند صاحب النظرة الديالكتيكية ( الجدلية المادية ) . من هنا جعل ألفريد فرج لشخصية ( هجرس ) نمطاً إيقاعياً مغايراً لنمطي إيقاع ( جليلة ) أمه و ( مرة ) جده لأنهما مع العادة :
" جليلة : مشينا سكة طويلة إلى هذه المصالحة يا ولدي أما العرش أو استئناف الحرب
هجرس : ( يلمس العرش ) أيها العرش . أيها الفخ . يا قدري . أيها القبر . "
ولقد اختلف إيقاع فكر الشخصيات وإيقاعات القيم في المسرحية عنها في السيرة ، وهذا راجع لطبيعتين: طبيعة إيقاع ذات الفنان الكاتب ، وطبيعة المحيط البيئي المتلقي . من هنا اختل توازن إيقاع الفكرة في المسرحية عنها في السيرة - من جهة نظر د. حجاجي - فالزير سالم " يريد العدالة الكاملة ، فلقد كان عربيداً في الفكر لا يطلب إلاّ الحقيقة الكاملة . العدالة الحق ، جوهر العدل ، وخلاصته النيرة فما دام كليب قد مات غدراً وغيلة فليعد كامل الحياة "
ونحن لذلك لا نوجه اللوم للمؤلف كما فعل د. حجاجي حين قال : " في ثنايا المسرحية لا نشعر بأن الزير طالب حقيقة .. فالحقيقة لم تكن ضالة لحظة من اللحظات "
ونحن نقول نعم لما قاله د. حجاجي ، ولكنه لتطرف الزير لم يرها مع أنه يطلبها . والمؤلف بحكم رؤاه المؤسسة على الجدل المادي والتاريخي ، من حقه أن يصور لنا الحادثة بهذا الشكل بحيث يكشف لنا عن أهداف الشخصية الرئيسية وموقفها المتطرف غير الريادي ، في الوقت الذي كان يجب عليها ؛ وزمام الأمر بيدها أن تتعامل طلباً لتحقيق فكرة محددة ، فإذا بها ترفض أن تبدأ من حيث انتهى إليه واقع الأمر . ولكنها تتطرف طلباً لتحقيق فكرة مستحيلة مع كونها عادلة . من هنا انحرفت عن الطريق الواقعية المؤدية إلى العدل - نسبياً - وليس مطلقاً .
فكأن المؤلف أراد أن يوصلنا إلى أن التطرف في طلب الحق يؤدي إلى ضياع الحق ، لأنه عندما تطرف ضاع منه التحقق ومن ثم ضاع الحق . وهذا موقف فيه غرابة ، سلكته الشخصية لأنها رسمت شخصية ملحمية ، ما تطلبه فيه غرابة ودهشة ، وليس شيئاً عادياً .
لقد أثارت هذه الغرابة في موقف الزير الباحث الدكتور حجاجي ولم يقنعه " إذا كان الكاتب في مقدمه يرى أن الحقيقة الكاملة التي يريدها الزير سالم هي عودة أخيه فنحن لم نقتنع بهذا "
والمؤلف حقيقة لم يتوقف عند ما يريده " الزير " ليؤكد فحسب حقه وعدالة موقفه ، كما زعم أو أوحى بذلك فهم الناقد ، ولكنه قال في مقدمة المسرحية تعليقاً على قول الزير : " كليب حياً ، لا مزيد " فعلق ألفريد " طلب مضحك ومؤس ، إلاّ أن ظاهره عدل ، ولعل باطنه عدل كذلك . عدل لا معقول ، إلاّ أنه عدل ، كما أنه لا معقول " .
إذن فألفريد فرج لم يطلب من المتلقي أن يقتنع لأن ألفريد نفسه لم يكن يقتنع بهذا الطلب ، فهو يراه مع عدالته يتطلب معجزة ، بمعنى أنه ممتنع . من هنا وجد فيه غرابة ، وهي وسيلة من وسائل المسرح الملحمي في تصوير الحادثة ، انتفع بها ألفريد ولم يدركها الناقد .
أما قول حجاجي : " فلا نتصور أن تكون فكرة عودة كليب حياً هي الحقيقة التي يريدها الزير . إنها ليست حقيقة الواقع ولا الفلسفة ولا الفن .. وهي ليست حقيقة على الإطلاق "
فمن المدهش حقاً أن هذا هو بعينه الذي لا يؤدي إلاّ إلى ما يراه ألفريد فرج نفسه : ( إن ما يرى الزير أنه الحقيقة ليس حقيقة من أي نوع . ذلك لأنه التطرف الذي لا يؤدي إلى أي شيء .
إذن فقد نجح ألفريد فرج في تصوير غرابة الطلب مع عدالته - الممكن والمستحيل معاً - السهل واللاسهل ، الحق واللاحق . وهذا نوع من التصوير المغرّب ، الذي يجعل المتلقي يقترب من الحدث المصور، ويبتعد عنه في الوقت نفسه . بينه وبين الحدث مسافة ، وصولاً إلى أن الحقيقة - منذ البداية - نسبية .
وهذا النوع من التصوير كما قلنا أحد عناصر الدراما الملحمية الرئيسية - إن لم يكن العنصر الأساسي (عنصر التغريب ) .
ومن الغريب حقاً أن يرى د, حجاجي في ذلك التصوير تناقضاً : " والتناقض بين الفكر والحدث لم يؤثر فقط في فكرة المؤلف وإنما يؤثر أيضاً في بناء المسرحية وأشخاصها "
وذلك دون أن يلمح القصد من وراء ذلك : فالفكرة : ( طلب العدل والحق كاملين ) هي فكرة ( الزير ) وليست فكرة ألفريد فرج . والفعل ( الحدث ) كان متطرفاً وصولاً إلى تحقيق تلك الفكرة المستحيلة ، من هنا ظهر التناقض بين فكرة الشخصية وبين فعلها - ومن ثم أثر ذلك في سير الأحداث وأشخاصها عند إعادة تصوير ألفريد لهم تصويراً حداثياً .
ولكشف ذلك التناقض كان على المؤلف أن يتبع تقنيات ( تجاور الأحداث ) لا تقنيات تتابعها وتواليها المنطقي. وهذه أيضاً خاصية من خواص الدراما الملحمية .
ومعنى ذلك أن ألفريد لم يكن مرتبكاً في بنائه للأحداث على طريقة التجاور ، في حين ارتبك فهم الناقد فطالبه ببناء غير متجاور ( منطقي التصاعد ) إذ بنى نقده على أساس مقاييس الدراما الأرسطية . ومن الغريب حقاً أن الناقد قد أراد أن يخرج ألفريد من ورطته - حسب قوله - فهو عنده متهم :
" وإذا حاولنا أن نبرئ المؤلف من وضع أكفان جديدة حول السيرة ، فإن علينا أن نتناول رؤاه لها " " فالكاتب في المقدمة رأى في السيرة جوانبها الثلاثة " العدالة والحقيقة والزمن " فهو يرى في الزير " طالب عدل لا معقول " يرفض الصلح إلاّ بشرط وحيد مستحيل هو " عودة كليب حياً " وهذا في رأيي يدعو للدهشة وللتفكير والمشاركة في تبين الأمر جلياً . وهذا هدف للمسرح الملحمي .. غاب عن الناقد!!
أما فكرة العدل التي ربطها الكاتب في مقدمته لمسرحيته ، لم يربطها بالزير فحسب ، وإنما ربطها أيضاً بموقف آخر وهو تصور أن في تولي ( هجرس ) ابن كليب المقتول ، للعرش فيه إقامة للعدل النسبي بين القبيلتين . " ونحن لا نشعر مع كل هذا بأن عدلاً قد أقيم أو أن عدلاً قد تحقق "
والدكتور حجاجي محق في هذا ، لأن العدل لا يحققه فرد مهما أوتى من قوة ، وإيمان عميق بفكرة العدالة. وهذه هي وجهة نظر المسرح الملحمي أيضاً . فالبطولة ليست للفرد في المسرح الملحمي ، ولا تعترف الفلسفة المادية الجدلية والتاريخية التي يهتدي بها المسرح الملحمي ببطولة فردية . ولكنها معقودة للوسط الاجتماعي في ظل الصراع الطبقي وطبيعة الحراك المادي المتفاعل . وهذا ما حدا بألفريد فرج أن يوصل إلى المتلقي فكرة أن العدل لا يتحقق بفرد ( زيراً ) كان أم غير ( زير ) ( هجرساً أم غير هجرس ) والناقد قد وعى ذلك .
فالمؤلف إذن قد نجح في أن جعل المتلقي ( الناقد ) ينتقد موقف كليب الانتهازي : فكليب لم ينل الحكم عن طريق العدل فهو لم يقتل ( التبع حسان ) ومن حق جساس أن يرفض سيادته ، لم يكن "جساس " طالب عدل في حين طلب الملك ، فالزير شريكه في قتل حسان ، والوحيد الذي كان طالب عدل في المسرحية هو الزير . غير أن طلبه للعدل بنى على غير أساس فقد قدم قوم جساس ، كل ما يمكن تقديمه دية للزير إلاّ أنه رفض ، ومن ثم فقد أصبح طالب عدل لا معقول . ومع أن الكاتب قد حصر العدل في دائرته ، فقد أوقع عليه العقاب كما أوقعه على غيره . لقد تعذب الزير سبع سنوات ثم فقد ذاكرته بعد ذلك .وفي النهاية " التحم بجساس وقتل كل منهما الآخر وهكذا أوقع العقاب بطالب العدل قبل أن يقع على منتهكي العدل "
أليس غريباً هذا .. أن يعاقب طالب العدل .. إن هذا الطرح قد جعل د. حجاجي في موقف المتسائل الشبيه (بموقف التوراة ) التساؤلي ، الذي شغل بريشت : " ولماذا يصاب الإنسان الخير بمثل هذه العقوبات الشديدة ؟
لقد نجح المؤلف حقاً في تصوير الموقف غريباً على غير العادة مثيراً للتساؤل والدهشة . وهذا كما أوضحنا مسلك الدراما الملحمية ، فهمه ألفريد فرج ووقع به أحداث مسرحياته وشخوصها ، ولم يفهمه د. احمد شمس الدين الحجاجي بعد !!
وحين يقول د. الحجاج مستقرئاً السيرة : " وحين قتل كليب رفض البكريون أن يقدموا جساساً للقصاص. وهنا لا مفر أمام الزير من أن يعلن أن العقاب سيقع عليهم ، حتى يعود كليب " يعلق على ذلك بقوله " إن دعوة كليب حياً " إنما هي رد فعل لتعنت البكريين ورفضهم تحقيق العدل وإيقاع القصاص بالقاتل " فإنه يبرر للزير طلبه . فلكل فعل رد فعل وذلك هو العادي والمنطقي . في حين أن الأمر غير العادي الغريب المثير للدهشة والداعي إلى الوعي بما يجري هو : " أن دعوة كليب حياً طلب عادل حين يرفض أهل الجاني توقيع القصاص الشرعي على القاتل ولم يكن أبداً عدلاً غير مقبول . ولكن هذا من الوجهة النظرية فحسب إلاّ أن تطبيقه لن يكون ممكناً أبداً والزير يعرف هذا . من هنا تنبع غرابته وشذوذه عن العادة وكون القاص الشعبي قد أوقع القصاص كاملاً على الجناة في السيرة ؛ فهذا أمر أخلاقي ، بمعنى أنه تناول أخلاقي للحدث. وهو ما دعا ألفريد في المسرحية إلى رفضه ، لأن القول بعودة ( كليب حياً ) غريب حقاً . وهذا يحيلنا إلى دور الكاتب الأيديولوجي الفكر في إعادة إنتاج دلالة الموروث واكتشافه بكل ما يشتمل عليه من تناقضات وتلك كانت وجهة عرفتها الكتابة المسرحية والنقدية في مصر في ظل التيارات المعرفية التي وفدت مع الحراك الثقافي والفكري إبان ثورة يوليو 1952م .
فإذا كنّا قد وجدنا في السيرة أن العادة والتقاليد تبعاً للأخلاقية هي التي تنتصر . وأن الحاكم لابد أن يكون فرداً ففي المسرحية دعوة للوقوف موقف الدهشة والغرابة من هذه التقاليد ومن ثم رفضها ، فاستئثار فرد بالحكم في الوقت الذي تم فيه تخليص البلاد بفعل جماعي هو أمر غير منطقي ويؤدي إلى الدكتاتورية والتسلط ( كليب ) وإلى الدسيسة والغدر ( جساس ) واللامبالاة ( الزير ) والتطرف عند كل حالة من الحالات الثلاثة السابقة .
والقضية هي أننا أمام مغتصب ( التبع حسان ) تشترك ثلاث قوى في قتله . إحداها ( جبانة ) مدعية وهي لم تشارك في قتل الغاصب ( كليب ) والأخرى تتنازل للجبانة عن حقها في الحكم ، فيكون للأولى أن تحكم في حين أن الطرف الثالث ( جساس ) يرفض الاعتراف بكليب حاكماً مستحقاً للحكم ، بينما انزوت القوة المتنازلة ( الزير ) تلهو وتعربد وتعبث . فالزير تنازل لكليب أخيه ، ثم انصرف للهو واللامبالاة. وجساس اتجه إلى التآمر لإدراكه أن القوة الحاكمة ( كليب ) لم تشترك في قتل الطاغية المستعمر، ولكنها وثبت منتهزة إلى العرش . وهكذا تسقط القوة الانتهازية الحاكمة بغدر القوة المتربصة ، ويؤدي ذلك إلى تحارب القوتين اللامبالية والغادرة ليصفي كل منهما الأخرى تصفية مادية بطريق الإرهاب فتتولى قوة جديدة من صلب كل القوى ( هجرس ) أمور الحكم والملك .
ولقد أخطأ الثلاثة منذ البداية ، فقد كانت العدالة قاضية بأن يتولى الثلاثة الحكم ، فيشكلون جبهة حاكمة - وتلك فكرة توفيقية تأثر بها ألفريد وهي دعوة لكسب التأييد لفكرة ( تحالف قوى الشعب العامل ) - التي عرفت في مصر الستينيات والتي رفضها الكاتب نفسه بعد ذلك في مسرحيته التالية (جواز على ورقة طلاق) ربما لاكتشافه أن فكرة ( تحالف قوى الشعب العامل ) تلك هي فكرة تلفيقية وهذا على كل حال يشكل معادلاً موضوعياً للواقع السياسي في الستينيات ولحرب اليمن التي دارت بمشاركة مصر والسعودية وجند الإمام أحمد وولده البدر من بعده حيث كتبت المسرحية في تلك الأثناء تأثر بها ألفريد وتفاعل معها انطلاقاً من حدث مستلهم من السيرة ، غير أن الناقد ارتبك في فهم ذلك .






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى