د. سيد شعبان - الموتى يركبون القطارات

ليلة أمس لم أنم بما فيه الكفاية؛ تداخل شريط النهار متتابعا؛ مثقل أنا ببعض الترهات تتناوشني، ثمة حلم زراني طيفه: الأموات في صخب استمر قرونا عدة؛ فهمت هذا من التاريخ المدون أسفل كل حدث، ولعله متواجد في ذلك القيد الحديدي الذي يثقلهم، يأتون مقترنين في سلسلة يتراصون فيها مكرهين؛ أريت قوما ينتعلون في أرجلهم جلود الغزلان وآخرين بعيون واحدة، نساء تتدلى من رقابهن تمائم ذهبية بها حروف عجيبة، يعلقنها خشية أن يأتي ساحر فيفسد عليهن الليالي التى تتراقص فيها النجوم ومن ثم تنتفخ بطونهن مجددا، لا تحلو لهن معيشة بغير تلك الزغاليل تسكن في أعشاش يحرسنها، لم يفزعني غير امرأة تقف وحيدة تبدو مشقوقة إلى نصفين يتباعدان ويقتربان كلما ظهرت سمكة ذات ذيل به ناقوس نحاسي يشبه ذلك المنصوب في برج الكنيسة العتيقة أمام المحطة التى بنيت في زمن الملكة فيكتوريا، نادرا ما تتوقف فيها القطارات، ربما كانت عاقرا، اشتاقت أن يلتقم ثدييها أحد هؤلاء الأبرار ومن ثم يلتحم جسدها من جديد، سألت الناظر العجوز لم لا ينتظر الناس هنا؟ ومن ثم يغادرون إلى المدينة التي تضاء بأعمدة إنارة تشبه أضواؤها ألوان الطيف السبعة؟
حاول ذلك العجوز أن يشرح لي سبب ذلك، أومأ برأسه ناحية المقابر المكدسة بعظام الأجداد؛ لم أفهم شيئا.
حتى هذا العجوز كان يمسك بفأس تصدر أنينا كلما لامست أرضية المحطة المهجورة، ثمة مغارة توصل بين الرصيف ومدخل المقبرة العتيقة؛ يقف عند بوابتها رجل أشيب طالت لحيته حتى اقتربت من ركبتيه، جواره تلة من أوراق لم تتناثر، لايكلم أحدا ليس لديه وقت ليضيعه في حكي لا جدوى منه.
يأتي طفل، يقال إن الرجل ذا الشيب لم يعد منشغلا بتدوين بطاقات الصغار، يمسك ببالونة تنتفخ حتى تسع المكان؛ لا تنفجر بل تتسلل منها أقلام ورماح وسياط وبضعة أشياء غريبة، سيوف وقنينات بها سائل يقطر حمرة، رقاب بلا رؤوس، أيد متراصة بجوار أشلاء مجهولة. أستدير جهة اليمين تلوح لي مئذنة يعلوها هلال لكنه غير مكتمل، يتلو الشيخ آيات تستدر دمعي يتناهى إلى أذني قول المسيح عليه السلام في سورة مريم "وبارا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا" أسرع ناحية ناظر المحطة التي لم تعد بها غير أسقف خشبية تشبه حطام معركة تدور في ظلام الليل، تلك الألواح الخشبية تسكنها أسراب من الغربان؛ عند المنحنى شجرة جميز عملاقة تلتف حول ساقها أفعى ذات فحيح.
تأتي طائرة تشبه البومة العجوز التي تسكن بيت جارنا الذي يقارب الثمانين، يعيش وحده بعدما ارتحلت زوجته، يحتفظ في ركن من حجرته بصورة تذكره بها، تلقي تلك الطائرة البومة بقطع صغيرة من أجساد هؤلاء وهم يرضعون من أثداء أمهاتهم.
مضى وقت ليس بالقليل، دخلت قافلة مكدسة ببطاقات هوية عجيبة؛ عجز الرجل ذو الشيب أن يدون أرقام الذين في التوابيت الخشبية، اكتفى بأن يثبت ساعة دخولها، ياله من رجل بلا قلب،! لا تصدر عنه أية إشارة تدل على حالته النفسية.
قبل أن يمضي إلى الجهة اليسرى من بوابة المقبرة العتيقة كان جرس الكنيسة العتيقة يدق في فزع؛ لقد حومت طائرة غريبة فوق سقفها إنها تلقي بقطع متناثرة من قصاصات أوراق؛ في ليلة العيد كان هؤلاء الصغار يشتهون الحليب.
يرسمون بأقلامهم الرصاص لوحات جميلة؛ عصفور يغرد وزهرة أقحوان تتمايل مثقلة بقطرات الندى؛ تشدو فيروز بصوتها الذي يقطر حزنا" وعلى الأرض السلام"
غير أن ثعلبا ماكرا يظهر في الخلفية.
عرفت في هذه اللحظة لماذا لم يعد القطار يتوقف في محطته، إنهم يتسللون في خفاء حين ينتقل الرجل الأشيب من جهة البوابة إلى الأخرى، لديهم وسائل ماكرة في التعرف على خطوط السير المخصصة لهؤلاء الذين يسكنون المدينة المحرمة.

د. سيد شعبان


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى