شريف محيي الدين إبراهيم - رحلة إلى شاطئ الملح.. قصة قصيرة

من داخل الحافلة لم أكن أعلم أي شيء!!
أين نحن!!
أو إلى أين نتجه؟!
تلفت حولي في ذهول... تأخذني رجفة... تبتلعني الحيرة، وتعصف بي الظنون!!
معي أشخاص كثر، أحسب أنني أعرف بعضهم, ما يهمني الآن،و أفكر فيه هو مجرد الوصول إلى نهاية هذه الرحلة....
ثمة رجل طاعن في السن، يحمل اناءً كبيراً، ممتلئاً بقطع اللحم النيء، جعلت الدماء تتساقط فوق رأسه، ووجهه، حتى ملابسه تلطخت ببقع حمراء كبيرة .
نهر هذا الرجل أبناء أخي ،حين انتبه انهم يأكلون من لحمه، صاح بهم أين أبيكم؟
وعندما أحضروه قال له : لماذا تتركهم يتناولون ما ليس لهم؟
امتعض أخي وهمس: انا لا أملك سوى هذه القروش البسيطة،. أخذها الرجل، منه وألقى إليه بكمية كبيرة من اللحم.
جلسوا جميعا في الأرض وجعلوا يتناولونها في نهم شديد والدماء تقطر من بين أسنانهم هالتني بشاعة المنظر، ، ،
سألت الرجل : لماذا تحمل هذا اللحم؟
نظر إلى فى امتعاض ثم قال: : انها تخص أولئك الذين ينتظرونني فى المحطة الأخيرة .
مر بنا الوقت،،،،، لا أدري كم دقيقة، أو ساعة أو حتى سنة، ولكننا بغتة، توقفنا.... ،
ساد صمت مريب ، وجعلنا نتطلع إلى بعض في ريبة حتى اتانا صوت السائق وهو يؤكد علينا، أن نغادر الحافلة، مع الحرص في كل خطوة نخطوها خارجها ، ..
ثم صاح في قوة : التزموا بالتعليمات يرافق كل واحد منكم مراقب أو شهيد لا يمكنكم رؤيته ولكنه يسجل كل مخالفاتكم ..
أخذني المكان بسحره الخاص، وشمل روحي (إحساسٌ رهيبٌ ) وطفقت أتطلع في ذهول إلى روعة المشهد،، كان منظرا عجيبا رهيبا، ،، لشاطئ صخري ،كبير، يكاد يكون مغطى بالملح المجمد وكأنه قطع من جليد!! ولبثت في مكاني لبرهة مشدوهة حائرة، أخاف من كل شيء،، ولكن ثمة غاشية من طمأنينة شملتني، وبدأت أشعر بخدر لذيذ يشمل كل اعضائي، حتى صرت لا أشعر سوي بروحي وهي تحلق في أرجاء المكان وكأنها طائر أثيري شفاف.
وطفقنا نمشي بحرص، كنت أخشى أن تنزلق قدم زوجي في إحدى الفتحات التي تملأ المكان. عندما صحت به أن ينتبه لخطواته، نظر إلى فى لا مبالاة ثم قال : لا داعي لقلقك هذا، نحن الآن لسنا إلاَّ في حلم كبير، فلا تنزعجي، ودعي الأمور تمضي كما تشاء.
سألته في حدة : هل أصاب عقلك شيء، هل يمكننا أن نحلم انا وانت حلما واحدا؟!
أجابني في هدوء: أليس هذا شيئا حسنا، إن يتشارك الزوجان حتى في نفس الحلم؟ تمتمت في دهشة : ولكنني أبصر كل الألوان، ومن المعروف أن. الأحلام لا تأت ملونة، قهقه زوجي، وسقط على الأرض من كثرة الضحك، وهو يردد: كل شيء يا عزيزتي يتغير ويتطور،والأحلام في هذا الزمان مثل الأفلام السينمائية،لم تعد بالأبيض والأسود بل صارت جميعها ملونة .
بدا زوجي وكأنه في حالة غير طبيعية، كان يتكلم، ويأتي بحركات وأفعال غريبة!
عندما لاحظ نظرات الريبة التي أواجهه بها، همس في أذني، يبدو أنك تتعجبين من كلماتي أو تصرفاتي. صحت به : وهل فيما تفعله أو تقوله شيء لا يدعو للغرابة؟! غير انه قال لي في بساطة : انظري حولك، كل من في هذا المكان تصرفاتهم عجيبة مريبة، فلا بأس من كوني مثلهم. كانت الشمس في كبد السماء ،ولكنها بدت وكأنها ترسل أشعة أقرب إلى اللون الأبيض، لم تكن شديدة التوهج بل ربما كانت تخبو أو تحتضر.
نساء شبه عاريا ت سوي مما يستر نصفهن السفلي، وقد شرعن في لطم وجوههن وتمزيقها باظافرهن الحادة الطويلة، واخريات منقبات لا يظهر منهن سوى أعينهن،يحاولن منعهن. ورجال عرايا تماما عدا بعضهم، في ملابس غريبة وكأنه زي موحد، بعضهم يستحم في هدوء والبعض الآخر يقذفون به عنوة إلى الماء، وآخرون على قطع الملح يتمرغون، فيصرخ البعض من الألم، بينما يضحك آخرون،، ، بعض الرجال ممن يرتدون ملابس سوداء كانوا يأتون مع طابور طويل من فتيات صغيرات، اخذ الرجال يحفرون في الأرض ثم يأتي كل واحد منهم، و يئد، صغيرته، فيها،،
ثمة جماعة أخرى، يتعاركون عراكا عنيفا بينما، يقف شخص ما، يراقبهم في صمت، ثم يأمرهم أن يلقوا بأنفسهم في جانب قصي، من الشاطيء تتصاعد منه الأبخرة،، وتنطلق من منه، السنة هائلة من لهب ، وتسمع له شهيقا وتبدو مياهه وكأنها تفور، تتعالى صرخاتهم، بيد انها سرعان ما تتلاشى بعد أن تذوب أجسادهم أو تنصهر وينحسر الموج، الغاضب، عنهم فتبدو لهم تماثيل ملحية، زجاجية، شفافة، وقد تشكلت على نفس أشكالهم التي اذابتها المياه، العجيب أن هذه التماثيل كانت سرعان ما تدب فيها الحياة وتنطلق في مشهد مرعب ناحية البر الآخر من الشاطيء. جعل أبناء اخي يمرحون ويلعبون وكأن ما يحدث حولهم مجرد مشهد عبثي هزلي ، حتى قطع الملح التي بدت كقطع من جليد، ما لبثوا أن التقطوا بعضها وأخذوا يقذفونا جميعا بها، غير انها سرعان ما تفتت وتلاشت في السماء قبل أن تصيب أي واحد منا، تعجبت من اخي الذي لم ينهرهم ، وعندما التفت إليه وجدته، واقفا في خشوع ينظر إلى البحر، وكأنه يصلي دون أن يبدي اي حراك. حينما رفعت راسي إلى السماء، شاهدت، اسرابا من الطير جميعها بيضاء، ناصعة البياض، وهي تحلق في السماء، كانت تتحرك بسرعة وترفرف بجناحيها بقوة، لتشكل مجموعات لا تكف عن الدوران والتحليق في دوائر تتسع برهة وتضيق برهة أخرى. لمحت، أمي وهي تغسل قدميها بالماء وقد جلست على قطعة صخرية كبيرة من الملح،، قلت لها في خوف: احترسي حتى لا تسقطين بين الصخور.، أو تبتلعك المياه إلاَّ انها أشارت لي في حدة أن اصمت، وطلبت مني أن اتركها وحدها ريثما تنتهي من تنظيف قدميها . في نهاية مرمى بصري سفينة كبيرة واقفة تنتظر الركاب،، تحركت على مرسي خشبي كبير، حاولت الوصول إلى المركب، إلا أن رجلا يرتدي معطفا شديد البياض ، ويحمل معه دفترا كبيرا، قديما، منعني من ركوب السفينة وقال لي: لماذا لا تلتزمين بدورك؟ التفت إلى جواري فوجدت طابورا كبيرا من الناس، حاولت أن ادقق في ملامحهم، كانت مبهمة، مضببة وكأن هالة بيضاء تخفي وجوههم ،لمحت الرجل صاحب إناء اللحم يمرق بينهم وهو يوزع على كل واحد منهم نصيبه من اللحم، سألت الرجل صاحب الدفتر القديم : لماذا يقفون هكذا.
فقال لي : هؤلاء أتوا منذ الصباح الباكر، وقد قاموا بحجز ادوارهم منذ فترة طويلة أمَّا انت ، فلم يحن دورك بعد، سألته: إلى أين تتجه هذه السفينة؟
فقال لي: صوب الضفة الأخرى. اضطربت، وشعرت بقشعريرة تشمل جسدي كله، حتى سمعت صوتا عاليا ينادي :أين أنت؟!
فانطلقت إلى زوجي وامي وأخي وقد وجدتهم يدلفون فى نفق عميق، من خلال سلم خشبي طويل ، هبطت معهم، وأنا، ،في ريبة من أمري ، كانت الرائحة لا تطاق، والعقارب والافاعي ،تتدلي من السقف المتعرج المملوء بالنتوءات الصخرية، وكأنها تتحين الفرصة لاختطافنا،،، ثمة جماجم وهياكل عظمية،لحيوانات وطيور وبشر، تملأ المكان، كنا نطأها بأقدامنا فتتهشم، وتطقطق متحولة إلى أكوام من ملح، ينبعث منها دخان ازرق غريب، وحين وصلت إلى منتصف النفق شعرت باختناق شديد،،. صحت بهم في قوة، ارجوكم أخرجوا جميعا من هذا المكان،، بيد ان نفس الرجل الذي كان يرتدي المعطف الأبيض ، ويحمل، معه، دفترا كبيرا، دفعني بقوة إلى الخارج ، حتى أنني وجدت نفسي أقف على باب الحافلة، فصعدت بسرعة ودلفت إلى داخلها، وعندما جلست لم أجد احدا معي، ممن اعرفهم ، سألت من حولي عن زوجي، وأخي وامي قالوا لي انه تم احتجازهم في احد الحفر الملحية وان هذا الأمر سيأخذ فترة طويلة من الزمن. سألتهم : من انتم قالوا لي نحن رفقاء جدد لك، وكلنا مثلك. صحت بسائق الحافلة :انت تمشي في طريق آخر غير الذي آتينا منه!! فاكتفي بالنظر إلى وجهي ثم همس : هذا طريق آخر، وبعد جديد، وعليك الأن أن تنسى كل شيء،. هذه حياة أخرى تماما. . صحت في قوة : انا اريد اخي وزوجي وامي،، لقد كانوا معي منذ البداية ، لم ينبس،إلاَّان الرجل صاحب المعطف الابيض والدفتر القديم ظهر بغتة وأشار إلى فى حدة أن التزم الصمت و أجلس في مقعدي.
……………………………………………………….

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى