د. سيد شعبان - جبة وقفطان

حملت ما استطعت جمعه من أشيائي البسيطة: أوراقي المهترئة وبضعة ثياب أختزنها ليوم الوجاهة، قنينة حبر؛ ريشة من جنح إوزة؛ أدون بها وقائع رحلتي إلى المدينة البعيدة؛ فقد جاءتني رسالة بالبريد"أن احتفالا كبيرا يعد لأجلك فاحضر في قطار الغد".
سرى ذلك الخبر في كفرنا الذي يعتاش على النميمة ويتدثر بالرغي؛ يتندر أحدهم: سيسكن هناك في مكان لاتراه فيه الشمس!
في القصر ما يحلم به أمثالي؛ وليمة فاخرة وحلي ومرجان؛ وثياب مزركشة؛ ونسوة الواحدة منهن فلق القمر، سأعود وقد امتلأ قفطاني بالعطايا، تعلو جبتي حتى تناطح سقف باب بيتنا الخشبي، قد أعود وجيها أو حتى عينا من الأعيان؛ ينتابني الشك؛ لم استدعوني على عجل؟
أتحسس رقبتي؛ في كل مرة يذهب أحد أبناء كفرنا إلى تلك المدينة المحرمة ولايعود!
لم أنم تلك الليلة؛ سأكون هناك بين هؤلاء الذين يحركون بأصابعهم كل شيء؛ أن تجوب العتبة الخضراء مرورا بالحسين ومن ثم تكون في واجهة المدينة التي ستحنو على المهمشين فذلك انجاز كبير؛ يبدو أن تغيرا ما يلوح في السماء، أنزل في محطة القطارات العتيقة؛ أصعد الحافة؛ لم أشأ أن أستعلم عن المكان؛ الحافلات تنتهي إليه؛ ينطلق صوت نشرة الأخبار؛ لا أعيرها اهتماما إلا بالقدر الذي ربما تنوه فيه عن لقائي بالسادة الجالسين فوق الأريكة الخضراء.
ارتديت الجبة والقفطان؛ وضعت الورقة التي جاءت بها أمي حجابا يحوطني من غيلان البر التي تنهش لحم المارين بالطريق إلى محطة القطار التي تقبع عند شجرة الجميز العجوز، لم أعد أخشى الجن ولا أفاعيله التي تطير العقل.
مهيأ للولاية الكبرى؛ فمن يجالس الأكابر سيزهو في الكفر؛ يمتلك إذنا بالتوقيع نيابة عنهم؛ ربما يمنون علي بوظيفة رسمية في زمن الكساد؛ ستكون خزانة بيتنا ممتلئة بأنواع شتى من زبد وعسل ولحم مشوي؛ يرتدي إخوتي ما يشتهون؛ قد ينعمون على أمي بخلخال نحاسي وقرط يتدلى من أذنيها.
عشت ساعات عصيبة؛ فدائما تكون الأحلام في الليالي التي لايتدثر فيها الذين ينظرون إلى القمر من كوة في الجدار.
مما يؤسف له أنني رجل بلا لحية؛ لم تكتمل بعد هيئة الحكيم الذي أحاول تمثله.
أخذت أنظف جسدي وأضع عطرا جاءت به أمي من دكانة سلومة العطار؛ في الغد سأكون مع الكبار.
رتقت أمي ثيابي؛ مشطت شعري المجعد؛ هذا يستغرق وقتا؛ على عجل جيء بمزين الصحة الذي تبرع بقص شعري؛ تزغرد أختي الكبرى.
ربما تعتقد أنني سأتولى منصبا كبيرا؛ مؤكد أن بيتنا سيمتلأ بالدقيق والسمن؛ تنظرني امرأة عوراء بعينها التي تفلق الحجر؛ تشعل أمي أعواد البخور وترش الماء بالملح؛ يأتي إلى بيتنا جمع من الأقارب؛ يمنون أنفسهم بوجاهة في الكفر الذي يختفي وراء تلال من البوص والبعوض.
سرح بي الخيال؛ ربما أعجبت بي ابنة مولانا؛ لم تجد فيمن حولها فارسا؛ ينتابني ضحك هستيري؛ وأتساءل: كيف عرفت بي؟
مؤكد أن أحد الوشاة ممن يقدمون للسادة كل شيء؛ من ولدت ومن اشترى بقرة بل ربما يعلمونهم بعدد الدجاجات التي نمتلكها.
يبدو أن ابنة مولانا سمعت بأنني أرتدي الجبة والقفطان.
إنها لاتعلم علتي، لم ينبت لي شارب، أشاع ابن المرأة العوراء أنني أمتلك سر آخر الزمان؛ ولأن هؤلاء الساكنين في المدينة ذات الأساور الحديدية يحسبون كل نأمة عليهم، يمسكون بذوي الرؤى والأحلام.
هذا وهم؛ أي جناية تلك التي ستغضب مني مولانا؟
سأحتاط جيدا حين أنام؛ حتى لا يأتي ذلك الجني بخيالاته، علي أن أردد في صحوي ومنامي آية الكرسي!
حين عبرت البوابة الأولى دوى نفير؛ تخطر نسوة مسدلات الشعور؛ في تخابث يحاولن جذبي.
أبدو مشدوها؛ تنبح خلفي كلاب سلجوقية وأخرى أرمينية وبلا ذيل إفريقية؛ تنتفتح كوة في جدار البيت العالي؛ يخرج مولانا المعظم سوطه؛ أقترب فينزعون الجبة والقفطان؛ يصبغون شعر رأسي؛ يلبسونني ثيابا أخرى؛ يلقون إلي بحبل يتراقص خلفي قرد؛ ومن يومها وأنا في تلك البناية بلا جبة ولاقفطان؛ تخرج أمي كل مطلع شمس تتظر ولدها الذي سيملأ البيت سمنا وعسلا!



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى