شريف محيي الدين إبراهيم - فرشاة للطلاء.. قصة قصيرة

ناولته فرشاة الدهان وأنا أموج بالغضب ،بعد أن سقطت هي وعلبة الطلاء ، من بين يديه المرتعشتين علي أرضية الفيلا.
وبينما كان هو قد تجمد خجلا فوق سلمه الخشبي المتهالك ،كنت أنا أحاول أن أزيل الطلاء ،الذي قد تناثر علي حذائي الإيطالي الصنع ،و بدلتي الباريسية الطراز.
كهل ،ضامر الجسد ،أشيب الشعر،رث الثياب ملوث بالعديد من الألوان والأصباغ ، بيد أنهم، أخبروني أنه يعول أسرة كبيرة ، وطالما أنها مجرد مهمة لضبط لون أحد الحوائط ،فهو أفضل من يمزج الألوان ويركبها.
قبل أن يعتذر لي ،صحت به في دهشة :
- علاء ...أنت علاء ! ؟

***

في عامي الأول في الجامعة ،لم يتركنى فى حالى !! اتخذنى مطية لاستعراض وسامته، أمام بنات الكلية، كشاب عصرى متفتح ،وأنا الوارد توا من عباءة أم كنت وحيدها المدلل.
فى بدء تعارفى به لم أكن أفهم نواياه الاستعراضية الخبيثة،ولكن ضحكات الجميع من حولى وهمساتهم الثنائية جعلتنى أدرك سوء مقصده.
حاولت كثيرا أن اتحاشاه، إلا أنه كان دائما لى بالمرصاد، بإهاناته المستترة خلف دعاباته أو إشاراته لجميع البنات من حوله وكأنه يلفت نظرهم إلى كمخلوق بدائى نادر الوجود، وهو ببنيانه وطوله الفارع ،وأناقته الشديدة وشعره الناعم الغزير المحلوق من الجانبين ،حينا يبدو لى مثل ذكر الهدهد الضخم وحينا كطاووس ملون كبير .
أصابني الهم والكدر وصرت لا أدرى ماذا أفعل معه؟!
علاء...... هو الابن الحقيقي لهذه المدينة، وأنا رغم أنى واحد من أبنائها الا أننى لم أكن أعرف بواطنها، فلا خبرة لى بشوارعها العميقة،أو دروبها الملتوية، ودهاليزها الغامضة.
حين التحقت بالجامعة شعرت وأن أبي قد قذف بى فى أتون مستعر من لهب الأضواء والزحام .

طلب منى يوما مجموعة من المذكرات الجامعية.... ولأننى لا أتاخر عن مساعدة أحد كما علمتنى أمي، سهرت الليل كله ما بين الكتابة والمراجعة، لمجموعة كبيرة من المحاضرات، حتى هيئتها ورتبتها ،وأعددت منها نسخة بخط جميل ولغة سهلة واضحة ،و لم أكن أعلم أن باكينام هي التي طلبتها منه.
باكينام التي تبدو دائما متوهجة مشرقة ،،، بقوامها الممشوق ،وملابسها العصرية المكشوفة التى تزيدها فتنة وجمالا ،وهي محاطة دوما بعدة فتيات وكأنهن وصيفاتها، و مجموعة من الذكور كأنهم حراسها. بدا لى وكأنه صديقها المقرب،كان لصيقا بها ملبيا لكل طلباتها، مسخرا نفسه لكل إشارة أو ايماءة منها.
ولم أكن أدرى أننى سأقف خاشعا ذليلا بين يديها ،وهى تقلب فى الورق بينما هو قد بدأ فى السخرية من ملابسى المتواضعة حتى امتلأت القاعة بضحكات الجميع. .
وقتها تأكدت أن باكينام هي شريكته في تدبير هذه المكيدة ،بعد أن أخبرها بأنه سيحضرنى، ليلهوان بي .
وهاهو يقدم لها ،فاصلا هزليا ،عن البنطالون الطويل الواسع ،الذى أرتديه وكذلك قميصى الكاروهات،الملون ، وحذائى المتهالك القديم.
سحب حقيبتى الصغيرة، منى عنوة،ثم أخرج ما بها من سندوتشات البيض والجبنة ، وجعل يوزعها عليهم، بينما تتعالى ضحكاتهم، وهم يهمسون في سخرية : لقد أحضر معه حقيبة المدرسة القديمة.
وأنا واقف فى مكانى،وقد تجمدت كل أعضائي.
كان العرق الغزير يتفصد من مسامى،ولا أدرى ماذا أفعل .
تمنيت أن تبتلعنى الأرض.
أو لعلها تميد ،أو تغور بي فى أعماقها السحيقة.
شعرت ، بإهانة بالغة،و أدركت حينها المعنى الحقيقي لكلمة كره ،وأنا فى حياتى من قبل ، لم أمقت أحدا .
لحظتها تحول ما بداخلى من مشاعر حنق وغضب تجاه علاء ، إلى طاقة سلبية هائلة كادت تعصف بى.

حبست ألمي وكرهى فى داخلى ،وانطلقت هاربا، لا ألوى على شئ إلى أن وصلت إلى بيتنا ماشيا على قدمى ،حتى تشققت من طول المسافة،التى لم أشعر بها.
وحين جاءت أمى الي وسألتتي :
- ماذا ألم بك؟ !
صحت بها :
- لماذا فعلتم بى هذا؟ !
دفعتها بقوة بعيدا عنى ،مزقت كل أوراقى وكتبى وألقيت بها من النافذة، هرع أبى إلى على صرخات أمى.
صاح بى، بعد أن لكزني بقوة في ظهري :
- كليتك ...دراستك .
صرخت به :
- لا يهم. ...
التعليم ،التفوق ،الأخلاق والمباديء ....
كل هذا لا يهم ولا يساوى شيئا .
- ومستقبلك !
- أى مستقبل هذا الذي تتحدث عنه؟ !

***

ثارت باكينام زوجتي ثورة عارمة ،حين دخلت علينا فجأة ورأت منظر الأرضية وهي ملوثة بالدهانات والألوان .
حاولت أن أهدئ من روعها ، وأن أذكرها أن هذا ( النقاش ) هو علاء زميل دراستنا القديم .
إلا أنها لم تعطني أي فرصة، وطفقت تكيل له كل عبارات السب والتجريح .
نزل علاء من علي سلمه الخشبي ،وأقعي جالسا علي الأرض حاول تهدئتها واستعطافها بكل الوسائل.

أخبرها ،وهو يتلعثم، و العرق الغزير يتفصد منه ، أنه سيقوم بتنظيف المكان وإعادة كل شيء إلي أصله ،حتي التحف التي تلوثت، والأنية الكريستال سيقوم بإعادة تلميعها ،وسيحضر مزيل بقع قوي لتنظيف الأثاث .
إلا أنها لم تعطه أي فرصة وقامت بفتح الباب علي مصراعيه وهي تصرخ في عصبية :
- بره...اخرج بره .
..............................

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى