شريف محيي الدين إبراهيم - الخالة صفاء العزب

وقفت الخالة صفاء طويلا، أمام سور بيت أختها ،فيلا اللواء شوقى العزب، كانت تعلم أن الفيلا خالية،لمدة أسبوع و أنهم جميعا فى مرسى مطروح ،شأنهم شأن معظم قاطنى الإسكندرية الذين يفضلون شاطئ، بحر مطروح بعيدا عن ضجيج الوافدين من شتى المحافظات صيفا فيما عدا أحمد شوقى العزب، الذى رفض السفر معهم لانشغاله بتجميع وتصنيع سيارة فولكس قديمة،أتى بها هو ومجموعة من أصدقائه من مستودع للخردة. أحمد، مشروع عبقري صغير، يهوى إصلاح، الأجهزة الإلكترونية، وأحيانا منحها بعض الإضافات أو التحسينات. غرفته تقع فى الطابق السفلى للفيلا ولها باب مستقل على الحديقة، وأمامها باحة كبيرة، تعد هى ورشته ومعمله ،يجتمع فيها مع مجموعة من أصدقائه، وبالقرب من حجرته، يجلس دائما، رعد، ذلك الكلب الأسود، الشرس، وكأنه يحرسه، وحده.

جعلت الخالة صفاء تفكر فى كل هذه الكمية من ثمار الرمان الناضجة . وحينما عادت إلى شرفة فيلا جدى ، كنت أنا ، و أبناؤها (فيصل ومنى ومنار)مستغرقين فى لعب بنك السعادة بينما كان جدى يتصفح جريدته اليومية، وجدتى تتابع بعض الإصلاحات فى الدور العلوى مع عم السيد الجناينى.

صاحت الخالة صفاء فينا :

تلعبون هكذا طوال النهار!!

همست منار :

لماذا أنت غاضبة ؟

_كل هذه الثمار ستتلف قبل عودتهم . صاح فيصل :

وما شأننا نحن، دعينا نكمل لعبنا .

إلا أن صفاء نهضت فجأة وأحضرت حلة كبيرة وتوجهت إلى حديقة أختها ، وجعلت تجمع كل حبات الرمان ،حتى غير الناضج منها .

وقبل أن تخرج من باب الحديقة، فوجئت برعد يأتى مزمجرا كوحش ثائر..

تجمدت، صفاء فى مكانها رعبا، ولم تنبس بكلمة .

صفاء، خالتى العزيزة، صاحبة أجمل ضحكة،وأخف ظل فى عائلة العزب كلها.

فهى تمتلك مقدرة رهيبة على تحويل أصعب المواقف إلى حالة،كوميدية ساخرة.

نعشقها جميعا، وننتظر الإجازة الصيفية على أحر من جمر اشتياقا لها وأبنائها.

بعد أن توفى زوجها، رفضت أن تغادر سمنود وتنزح إلى الإسكندرية لتكون برفقة والديها وأخواتها،و فضلت البقاء كمدرسة للغة الفرنسية، مع أسرتها الصغيرة، فى تلك المدينة القريبة من المحلة الكبرى،بالقرب من مسقط رأس أبى ، وهى منطقة شبه ريفية تابعة لمحافظة الغربية.

إنها مدينة، تتمتع بصفات القرية ،حيث يمكنك أن ترى الأرض الطينية الخصبة، ومساحات الخضرة ومحاصيل متنوعة، تمتد أمامك فى مساحات واسعة لا يحدها سوى تقاطعات المصارف والترع المتشعبة من وإلى نهر النيل، ذلك العملاق الأسمر، الصبى دائما رغم إمتداد سنوات عمره بطول الزمن .

كانت ترى فى هذه الحياة، سهولة كبيرة عن حياة المدن الكبرى مثل الإسكندرية. ..

هناك لازال الناس يتمتعون بالبساطة والصدق، وكل شئ أرخص كثيرا، من المدينة ،بدءا من الطعام، والملابس، و حتى الدروس الخصوصية، شبه مجانية.

كما أنها لم تستطع التخلى عن جيرانها و أصدقائها ،عشرة عمرها، طفلة، وصبية، وأخيرا ربة أسرة و مدرسة يعرفها كل أبناء البلدة ويقدرونها ،الأمر الذى جعلهم جميعا يتبارون فى مساعدتها وتقديم خدماتهم إليها حبا واحتراما، الأمر الذى جعلها تفضل المعيشة بينهم بعيدا عن عائلتها الكبيرة فى الإسكندرية . ورغما عن تملكها بمساعدة جدتى لبيتا كبيرا فى نهاية شارعنا، إلا أنها جعلت منه مجرد مقرا صيفيا لقضاء الإجازة المدرسية. .

وظلت كل عام تقنعنا بأنها فى العام القادم ستقوم بنقل أبناءها وتأتى معهم لتستقر بيننا، إلا أن السنوات مرت سراعا ولم تغير من حياتها أو عادتها ولم تتخل يوما عن أصدقائها وجيرانها وحياتها المشبعة بذكرياتها ، فى سمنود تلك العاصمة الفرعونية العتيقة ،الضاربة فى التاريخ والسحر والغموض.

وتأتى،صيفا، ونحن ننتظرها على محطة قطار المندرة، فنحتفل بها ونسعد بأبنائها، ونبدأ على الفور فى الترتيب معها لترتيبات التنزه وليالى السمر وحفلاتنا وتجمعاتنا الليلية الممتعة. .

ونحشد لها كل أفراد العائلة مع ترتيبات الولائم والعزومات المشتركة، وخاصة الفسيخ والرنجة والتى كانت عادة ما تأتى معها بكميات كبيرة منهما.

وفى الصباح نستيقظ جميعا استعدادا للذهاب إلى شاطئ بحر المندرة، وفى الظهيرة نأخذ راحة قصيرة ريثما تشارك أمى فى اعداد طعام الغذاء. .. وفى الأماسي كنا، نجتمع جميعا فى حديقة الفيلا مع الخالات وأبنائهم،ونلتف جميعا حول شواية الفحم والتى برع فى التعامل معها اللواء شوقى، فصار دوما هو المسؤل عن شى لحوم ودجاج العائلة بمساعدتنا جميعا.

صاحت أمى، بمنى وهى مشغولة فى بنك السعادة :

أين أمك؟

_فى حديقة طنط ليلى تجمع الرمان .

نهض جدى من على كرسيه فزعا ثم صاح بنا :

اذهبوا إليها ، لقد تأخرت كثيرا !

وعندما وصلنا إلى باب الفيلا كانت هى واقفة مذعورة فى ركن قصى من الحديقة ، بينما رعد واقف على قدميه الخلفيتين مانعا إياها من المرور، محاولا عقرها ولكن السلسلة الحديدية الطويلة المنعقدة حول رقبته كانت تمنعه من الوصول إليها، و بينما العرق الغزير يتفصد من وجهها، الضارب فى الحمرة ، كنا نحن غارقين فى الضحك.

همست الخالة صفاء فى هلع :

اعملوا حاجة؟

مدت منى يديها من فوق السور، وأخذت الحلة الممتلئة بثمار الجوافة وانطلقت إلى فيلا جدى ، ونحن جميعا نركض خلفها، لعلنا نظفر بثمرة منها.

وما أن رآنا جدى حتى صاح بنا :

أين صفاء؟



أخذت أمى مقعدا حديديا، وناولته لخالتى التى أقعت جالسة عليه، فى مواجهة رعد الذى كان هو الآخر قد أصابه الملل،إلا أنه ظل على حاله واقفا أمامها فاتحا فاهه، والسلسلة المربوطة فى عنقه مشدودة على أخرها تكاد تنفلت من العمود الحديدى المعقود أخرها به.

صاح جدى فى غضب :

ابحثوا عن أحمد شوقى .

كنا نتصارع على تناول حبات الرمان ، حتى أنه سبنا جميعا ،إلا أن أمى مالبثت أن قالت :

أحمد مع زوجى يريه مدى قوة ومتانة السيارة الفولكس التى جددها .

تساءلت جدتى فى دهشة :

وماشأن محي بسيارة أحمد وهو لديه سيارته ؟

قلت لها :

إنه يريه مدى قوتها وسرعتها عله يأتى له بمشترى لها.

وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث، كانت صفاء تقفز من فوق سور الحديقة بعد أن وقفت على الكرسى الحديدى الذى ناولته لها ،أمى، ولم تكن تردد سوى جملة واحدة:

أكلتم الرمان كله يا أنذال.

...................................​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى