شريف محيي الدين إبراهيم - صاحب النظارة السوداء

فى لهفة شديدة رحبنا به.. تحلقنا حوله ... بمجرد وصوله إلينا ،فى مقهى وسط البلد.. فى نفس الميعاد من كل سنة يأخذ إجازة من عمله فى إحدى دول الخليج ويأتى فى زيارة خاطفة لمصر.
يبحث عن كل أصدقائه، وجميع من فى المقهى يساعده ،حتى صاحب المقهى نفسه ومديرها، يقوم باستدعاءنا تلفونيا للقاءه الذى عادة ما يكون حارا، وخاصة أنه لم يحضر يوما إلا وكان محملا بالهدايا والخيرات.
كل عام قبل أن يسافر ونحن نودعه،لا يفتأ أن يردد إنها السنة الأخيرة له فى الغربة.
كانت الدموع تملأ عينيه ، التى كنا نراهما بوضوح، رغم نظارته السوداء سميكة الزجاج .
أخر مرة حضر،لاحظ أن صاحب المقهى صار شيخا طاعنا فى السن ، اقترب منه ،وبعد أن رحب به كثيرا سأله عن أفراد شلته المقربين.
أجابه بأنهم جميعا قد رحلوا ولم يعد يتبق منهم سواى أنا.
أتيت على عجل للقائه ....
قال لى :
زوجت بناتى الثلاث، ولم يتبق سوى ابنى الأصغر، حالما أجهز له شقته ستنتهي مهمتى فى الخارج وأعود اخيرا إلى وطنى، حيث يمكننى أن أقضى بقية حياتى بين أهلى وأصحابى. وحين سألته عن زوجته أخبرنى أنها عانت كثيرا لفراقه.
فى البداية كانت تمنى نفسها باللحاق به ،ومعها كل أبناءها إلا أنها ومع مرور الأيام والشهور والسنوات ،نست حتى هذه الأمنية ولم يعد يهمها سوى المال الذى يسترها.
حدثنى عن الشوارع التى لم يعد يعرفها. ..والعمارات التى نطحت السحاب،

والمحلات التجارية التى حلت محل تلك البيوت العتيقة التى كانت تشع بالسكينة. .. كلمنى عن أبنائه الذين كبروا بعيدا عن دفء عينيه، وصار لا يربطهم به سوى العلائق المادية. حكى لى عن قسوة الوحدة، و برودة ليالى الغربة.
ولأول مرة يسألنى عن نفسى وعن زواجى الذى تأخر كثيرا.
ابتسمت ... قلت له لقد فات أوان هذا الموضوع ،وذكرته أننى مجرد موظف بسيط.
نظر إلى فى دهشة قائلا : صرت مديرا عاما ،ولازلت تحسب نفسك موظفا بسيطا.
استدرت إليه فى حدة ثم صحت به : ولكننى فى النهاية، مجرد موظف حكومى شريف.
هذه المرة تحديدا كانت سنوات الغربة كلها تتضح بجلاء على وجهه !!!
شعره الناعم الغزير لم يعد يتبق منه سوى بضعة خصلات بيضاء قد تهدلت على جانبى رأسه، وبدت التجاعيد التى حفرت على وجهه وكأنها ترسم خريطة لوطن آخر غريب يقطن كل ملامحه،كما أن نظارته البلاستيكية بدت أكثر سوادا وسمكا.
همس لى فى حنو بالغ : لم يعد لى من صديق حقيقى، فى هذه البلدة سواك ثم اردف فى حزن مفرط : تخيل يا صديقى، أن زوجتى و أولادى قد صاروا غرباء عنى. ....
عندما آتى فى العام المقبل سأقوم بعمل مشروع صغير، وسأجعلك أنت مديره بل و شريك لى بكل خبراتك الإدارية والمالية .
ودعته فى فناء المطار ،وأخبرته أننى سأنتظره،فى نفس التوقيت من السنة، ونفس المكان فى مقهانا الأثير ..
وبعد مرور عام أخر ، عاد صديقى إلى أرض الوطن ، كانت مظاهر السعادة تبدو عليه ، حتى أنه كان قد خلع نظارته السوداء .
ود لو يخبرنى أنه أخيرا قد ودع سنوات الغربة ،وأصبح حرا طليقا،وأضحى يمكنه أن يحيا الآن لنفسه، يحيا الحياة التى كان يتمنى أن يحياها .
ولكنه لم يجدنى !!
وحين اقترب من صاحب المقهى ،فوجئ أنه لم يعد يعرفه!!
لم يحاول حتى أن يذكره بنفسه، ولكنه سأله عنى فى شغف شديد.

و أخبره صاحب المقهى فى حزن ، أننى قد رحلت . .. رحلت أمس، وأن جميع من فى المقهى قد حضروا جنازتى.
أقعى صديقى على الأرض جالسا. .. وحيدا، شاردا .
لم يبك أو يذرف الدمع .
فقط جعل يبحث فى ارتباك عن نظارته السوداء فى إحدى حقائبه ،ثم نهض بصعوبة مستندا على أحد مقاعد المقهى، ثم قرر الرحيل .

...............................

تعليقات

عمل متجاوز بكل المقاييس.
واقعية مابعد السحرية.
دفء العبارة وشفافية السرد.
الحكي المتماهي في ثيمات تحكي عمق التجربة. شريف محي الدين عبر كثيرا في هذا النص الممتع. جسد ابداعي
يمتاز بايقاع متوازن. الاحداث تشدك من البداية إلى النهاية. احترافية عالية اكتسبها شريف محي الدين... ومنهجية ارتقى بها في هذه القصة الرائعة والمدهشة في آن.
صديق الحلو.
كاتب من السودان.
 
أعلى