شريف محيي الدين إبراهيم - مدرسة الشهيد عاطف السادات

أصرت أمى أن تحضرنى أمام أبى لتستجوبنى، قائلة فى غضب :
ماذا ينقصك ؟!
أخبرني ،هل نحن مقصرين معك فى شئ ؟ !
همست فى ضيق :
لماذا تسمعيننى هذه الكلمات؟ !
- ابن أبلة سعدية الأول على فصله، وكذلك ابن الأستاذ سمير والأستاذ عوض.
تدخل أبى متسائلا فى هدوء :
_ما هو ترتيبك على الفصل؟
وأطرقت فى خجل ولم أنبس، إلا أن أمي صاحت بأبي قائلة :
ابنك الخائب ترتيبه الثالث.
قال أبى وهو يتظاهر بالغضب :
- ومن الأول على فصلك ؟
- صلاح .
- ابن أي مدرس ! ؟
قالت أمى فى تعجب :
ليس ابنا لأى مدرس أو حتى عامل فى المدرسة.
قال أبى فى ضيق :
ماذا يميز هذا الولد عنك ،هل هو أفضل منك؟ !
نظرت إليهما فى دهشة، ثم صحت وأنا ألوذ بالفرار :
_ كيف تفكران بمثل هذه الطريقة ؟!
ألا تعرفان من هو صلاح ؟!
نظر أبى إلى مشدوها، ثم قال :
ومن هذا الصلاح، هل هو صلاح الدين الأيوبي ؟! إنه مجرد ولد مثلك لا يزيد عنك فى شيء.
حين أدركت أنه لا جدوى من الحديث مع أبى وأمي ،غادرتهما وأنا أردد فى استياء وبصوت خفيض:
مستحيل أن أتفوق على صلاح؟ !

انتقالنا من العاصمة إلى الإسكندرية ،لم يكن قط ، بالأمر الهين على نفسى...
فى القاهرة الأحياء صاخبة مزدحمة بالأجساد ،والمبانى، والسيارات.
تمتلئ شوارعها بالمحلات ،والمقاهى ودور العبادة والفنادق ،والأسواق التى لا تنام.
أما عروس البحر، آنذاك .....
وتحديدا منطقة، المندرة ،فقد كانت تمتاز بالهدوء المفرط، فلا زحام ولا صخب ولا ضوضاء.
بعد آذان العشاء تنطفئ جميع الأنوار ،وتسكن الحركة تماما.....
الكل يغط فى نوم عميق ،إلا مجموعة من الضفادع المزعجة،التى تبدأ فى النقيق ولا تنتهى منه إلا مع أول شعاع للشمس.
الفارق رهيب بين القاهرة مدينة الضوضاء...
مدينة اللهاث، والتكدس والزحام والسرعة.
مدينة الدخان والعادم والتلوث.
والإسكندرية مدينة الهدوء، و التأني....
مدينة النقاء، والمساحات الخالية، الواسعة الممتدة حتى ذلك المارد المسمى بالبحر .

تم نقل أمى إلى مدرسة الشهيد عاطف السادات بالطابية ،ونقلتنى معها كعادتها معى فى كل تنقلاتها .
بالنسبة لى كانت منطقة الطابية هذه هى اكتشاف جديد فهى حالة ثالثة أخرى تختلف تماما فى طبيعتها عن أحياء القاهرة، بل والإسكندرية.

فهى ،تمتلئ بالأراضى الخصبة،المزروعة معظمها بالموالح ،وأشجار التوت والنخيل،و تقع بعد المعمورة البلد، فى أقصى الإسكندرية .
فى أيام المطر تستحيل شوارعها إلى برك ومستنقعات، ويمضى الناس الواحد خلف الآخر فى طابور طويل ليعبروا الطريق من ضفة لأخرى فوق صف من الحجارة المرصوصة بعناية، وكأنهم لاعبو أكروبات، أما الأطفال فلم يكن يعنيهم الأمر، فهم فى الماء والطين يخوضون بحذاء بلاستيكى مرفوع حتى منتصف الركبة.

سعيد وصلاح زميلا الفصل، الأول ضاحك مبتسم دائما، والثانى جاد هادئ.
أما أنا فأنضم إلى فئة أبناء المدرسين، وهى فئة تتميز اجتماعيا كثيرا عن باق التلاميذ من عامة الشعب.
فكانت لنا معاملة خاصة من قبل الجميع، إكراما لحق الزمالة .
كنت من المتفوقين دراسيا، وكان عادة ترتيبى يأتى الثالث أو الرابع على الفصل ،وأحيانا الثانى، أما المركز الأول فقد كان محجوزا لصلاح، بشكل حصرى ودائم. ..
كنا ومجموعة من الطلبة النابهين نتنافس على باق المراكز، ولم نكن حتى نفكر فى منافسة صلاح الذى كان يغرد وحده منفردا وبفارق كبير من الدرجات عنا جميعا.
والحق أن الجميع كان يحبه،و يحترمه لأدبه وجديته ،وكذلك لاعتنائه الدائم بمظهره وأناقته، فهو بسمار بشرته وشعره الناعم الطويل، بحذائه اللامع دائما رغما عن بعد بيته عن المدرسة، وما يواجهه فى طريقه من أوساخ ، وخاصة أيام الشتاء الممطرة.
صلاح كان ليس بفتى عادى، لم يكن ذكيا فحسب، بل كان عبقريا، فهو يمتلك عقلا جهنميا، ما أن يستمع للدرس مرة واحدة حتى يعلق بذاكرته إلى الأبد، وهو لم يكن ذاكرة حافظة فقط، وإنما لديه،على الرغم من صغر سنه مهارات التفكير الناقد والمطور أحيانا. ..
كان يمد يده بالمساعدة للجميع، وكان لا يخذل أحدا أبدا ، فهو كثيرا ما كان يشرح لزملائنا متوسطى الفهم ما انغلق عليهم فهمه بأسلوب سهل بسيط ،حتى تطور الأمر وجعلوا يذهبون إليه فى بيته كثيرا طلبا لمساعدته ومعاونتهم على حل الفروض الدراسية الصعبة، وخاصة أيام الامتحانات.

شبت بين ثلاثتنا أنا وصلاح وسعيد علاقة صداقة جميلة، فكنت أجلس فى المنتصف بينهما، على تختة واحدة، وفى الفسحة ،كانا يتناولان طعامهما المكون عادة من البيض و الجبن القديمة ،أو القريش ،المشبعة بزيت الزيتون ،مثلهما مثل معظم تلاميذ المدرسة، وكنت أستبدل مع سعيد وصلاح طعامى من الجبن الرومى أو البسطرمة فيفرحان كثيرا.

وكانا كثيرا ما يرافقاني فى رحلة العودة حتى محطة القطار ،وهو الوسيلة الاقتصادية، المعتادة لدى معظم سكان الإسكندرية .
ولكوني من أبناء المعلمين، فقد كان جميع المدرسين ينظرون إلى نظرة غريبة أمام بعدى عن أبنائهم ، وارتباطى بعامة الطلبة وجعلى واحدا منهم هو أقرب صديق لى.

كنا نقبع ،فى حجرة صغيرة متسلخة الطلاء، ،مهشمة النوافذ، وكان عددنا فى الفصل قد تجاوز ال70 ،
وكان مدرسنا الأستاذ سمير ، لا هم له سوى تعذيبنا فى طابور الصباح أو فى حصته حيث كان يجعلنا نخرج إلى حوش المدرسة،فى شمس الظهيرة لنقف ونرفع حقائبنا، فوق رؤوسنا ، ثم يأخذ هو فى تهشيم عظام أفراد الفصل الواحد تلو الآخر بعصاه الغليظة.
وهو لا يفرق بين الطالب العادى والآخر ابن المدرس ،زميله أو زميلته، طيب أو مشاكس، نابه،أو بليد،الجميع فى نظره مجموعة من الخطرين الخارجين على القانون، الذين يجب تهذيبهم وإصلاحهم.
والحقيقة أنه كان بارعا فى تلك المسألة..
شد الأذنين، والصفع على الوجه،واللكم باليد أو الركل بالقدم،وكذلك المد على الرجلين ومرورا بالعبط، مع التنويع فى استخدام أداة التعذيب، فمرة عصى حلزونية، وتارة أخرى قطعة طويلة من خرطوم المياه.

علمت من أمى أنه مريض نفسيا وعصبيا ويأخذ علاجات مكثفة ،وأن زوجته دائمة الشكوى منه لناظر المدرسة.
لطمنى على وجهى مرة،لطمة عنيفة أدمت أنفي، فهرعت إلى أمى ، إلا أنها لم تفعل شيئا سوى أن عنفته بكلمات قليلة، وحين قال لها أنه يعلمنى الصواب ويريدنى من النابغين.
قالت له أنها تريدنى بليدا غشيما.
لم يعجبنى تساهل أمي مع سمير فى حقى واكتفائها بمجرد هذه الكلمات المائعة، فكرت أن اشكوه إلى ناظر المدرسة، ولكنه رجل طيب، لا يعلو صوته أبدا على معلم أو تلميذ وهو فى معظم الوقت خارج المدرسة.. .
علمت أنه يذهب بعد طابور الصباح إلى حانوته لبيع السمك ،ثم يعود مع نهاية الحصة الأخيرة.
شعرت أمى بما يدور بخلدى فحذرتنى من إخبار ناظر المدرسة وكذلك أبى ، الذى لو علم سيثور ثورة عارمة لا يحمد عقباها.
كنت أشعر بالذعر لمجرد رؤية الأستاذ سمير،وخاصة أمام نظراته المريبة وكأنه يتوعدنى بالهلاك جراء شكوتى لأمى.
فى نهاية اليوم الدراسى، كان يجعلنا نجمع القمامة من فناء المدرسة، ثم نحملها فى مقاطف ونخرج لإلقائها فى المصرف الزراعي المواجه لمدرستنا. .. وتلك بحق هى لحظات صعبة ، وأنا ألقى القمامة فى تلك المياه القذرة ....

المصرف، حاد الحواف وحوله أرض طينية لزجة، تمتلئ بالحشرات والزواحف، ويمكن أن تنزلق قدم أحدنا بسهولة ليبتلعه فى لمح البصر.
ذلك المصرف الذى كان يمتلئ بالأفاعي، والفئران.
كثيرا ما حكى لى سعيد عن العفاريت والشياطين التى تسكنه، وأنها تخرج ليلا بعد دقات الساعة الثانية عشرة ،لتبحث عن فريسة تحضرها لسيدها القابع فى أعماق المصرف،وذكر لى العديد من أبناء البلدة الذين ابتلعهم المصرف، ليؤكد لى صحة كلماته وكيف أن سيد المصرف ، ينتظر خدامه من الجان ،كل يوم بضحية جديدة ..
كان صلاح يضحك كثيرا من كلمات سعيد، ويتهمه بالبله، صائحا بى : لا تنصت كثيرا لسعيد ،هذا ولد مجنون ذو خيال جامح .
ورغم أنني أعلم أن سعيد له شطحاته غير المنطقية، إلا أنني كنت أصدقه، و أرتجف مع كل كلمة من حكاياته المرعبة.
وصل الأمر بسعيد أنه كان يحسب الأستاذ سمير واحدا من خدام سيد المصرف، وكانت حركات سمير المريبة وأفعاله العجيبة تدفعة دوما ، لتأكيد قناعته.
عندما انتقلت أمي فى العام التالى إلى مدرسة الناصرية فى المندرة،بالقرب من بيتنا،وذلك بعد مساعى كثيرة وتدخلات من أصدقاء أبى ذوى النفوذ والسلطة، ونقلتنى معها،حزنت على فراق أصدقائى وخاصة سعيد وصلاح. ..
وحين ذهبت، لسحب بعض أوراقها من المدرسة أخذتني معها.
فرح بى زملاء الفصل وخاصة سعيد، الذى سألته عن صلاح، غير أنه أخبرني أنه ترك المدرسة .
سألته فى حزن مشوب بدهشة :
لماذا وهو أكثرنا كفاءة وذكاء ؟!
أطرق، سعيد لبرهة ،ثم رفع وجهه إلى وقد اكتسى بعلامات الحزن ، ثم همس فى مرارة :
أبوه رجل فقير !!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى