شريف محيي الدين إبراهيم - نرجس ليست جميلة

بعدما مرت علي نرجس السنوات صعبة مريرة، وزوجها عمر غائب عنها، تأكدت أنه يمثل قيمة كبرى في حياتها ،بل ربما أدركت أخيرا أنه كان أهم شئ لديها، تساءلت في أعماقها :

هل هي حقا تحبه،أم أنها مجرد رغبة مجنونة للامتلاك؟!

، وخاصة وأنها على طول عشرتها له لم تصرح له يوما بأنها تحبه، بل إن كل ما كان يحدث منها يؤكد عكس ذلك تماما !!
حين فتحوا لها الأبواب، وقالوا لها:

أنت الآن حرة!!

لم تفكر لحظتها إلا في التوجه إليه، فهي حتما ستجده في بيت "جميلة" ضرتها.

هل ستقول له أنها لا يمكن أن تحيا بدونه؟!

هل هي قد تنازلت حقا عن غطرستها ،وغرورها؟!

إنها لم تكن تدري أنها تمضي مدفوعة بفعل زمن عجيب ،متغير وثابت في ذات الوقت، بشكل مذهل!!

فهي قد أضحت متلهفة إلى حد الموت للقاء زوجها، وباتت تتحرق شوقا للحظة التي تراه فيها.

قد يعنفها أو حتى يلعنها على كل ما فعلته ، وما لقيه منها من نكران وجحود ، ولكنها الآن يقينا سترضي صاغرة، بأي إهانة يوجهها لها، المهم أن تستعيده ثانية إليها.



نرجس قالت لنفسها:

،هو ليس أول ولا أخر رجل يفعلها، ولاسيما أنه لم يفعل ذلك إلاّ بعد أن يأس من إصلاح الحال .

تذكرت نظرات عينيه وكيف كانت تفيض بالتسامح، دوما هو راض عن نفسه، وعن كل من حوله، محب حتى للعالم كله، بينما كانت هي تشتعل دائما غضبا وحنقا على كل من حولها،و تحسب تسامحه هوانا، و رضاه عجزا، و حبه خيبة كبيرة.



عندما أخبرها أنه سيتزوج عليها ، نظرت إليه في سخرية مستهينة بكلماته...

ضحكت ولم تصدقه، قالت له في هدوء :

هذا الأمر لا يفرق معي.

ثم أردفت في قوة : افعل لو أنك رجل بحق.

هي كانت تعرف جيدا أنها جميلة،والحقيقة أن نرجس كان لديها ذلك النوع النادر من الجمال الفاتن المسكر.



جعلت تردد لنفسها :

مستحيل أن يجد من هي أجمل أو أفضل مني.

فأنا بالنسبة له بمثابة جائزة كبرى لا يمتلك مواصفات استحقاقها ، أو مكافأة قدرية ضخمة جاءته بغير ذي حق أو صفة.

فأين هو من جمالها، ورقي عائلتها، ورجاحة عقلها، وقوة شخصيتها ؟!

نرجس كانت تحسب أن زواجها منه مجرد غلطة اقترفتها في غفلة من الزمن ، وإرضاء لأهلها، بعد أن لوثتها الإشاعات المخزية، وخاصة بعد أن تخلي عنها حبيبها، وخطيبها السابق قبل زفافهما بيوم واحد.....

وقتها، لم يكن أمامها أحد سوى عمر، الذي كان يطاردها في كل مكان تذهب إليه ، حتى بعد أن رفضت الزواج منه في أول مرة تقدم لها؟!



عمر كان رفيق دراستها،منذ المرحلة الابتدائية وحتى التخرج من الجامعة، وهي كانت تراه مجرد شخص تافه، ثقيل الظل، تستعير منه بعض الكتب أو المذكرات، وأحيانا قد يعينها في فهم بعض ما استغلق عليها من مواد دراسية، فهو كان الأول دائما على دفعته، إلا أنه في النهاية لا يتجاوز مكانة الزميل الذي لايصلح إلا لملئ بعض أوقات الفراغ المملة.



وبعد أن تزوجته مضطرة، جعلت تضعه دوما في موضع مقارنة ، و حبيبها السابق، الذي كانت تعده النموذج الرائع للرجولة بل والبطولة،بخفة دمه وأناقته، وواسامته الملفتة، وكأنه أحد فرسان حواديت ألف ليلة وليلة.

وكانت النتيجة الحتمية في غير صالح عمر زوجها حتى بعد أن صار أستاذا أكاديميا كبيرا في الجامعة، فقد لبث دائما في نظرها يحمل كل الصفات المناقضة.
هل نرجس حقا وبعد طول الزمن قد أدركت أن خطيبها السابق ليس هو النموذج الأمثل ؟!

ربما كان صورة كرتونية باهتة لوهم كبير قد صنعته بنفسها ولنفسها؟!

هل أخيرا تحول قلبها، وعرفت أن زوجها عمر ، هو بحق الذي يستحق دور البطولة في رحلة عمرها ؟!


طرقت بعنف على باب شقة جميلة ضرتها...

وحين رأته بعد أن فتح لها الباب،

ألقت بنفسها بين ذراعيه.....

وهو أيضا قابلها بمنتهى الشوق والحرارة.

تعانقا عناقا كاد أن يكون أبديا.

أمطرته بالقبلات الحارة.

صرخت جميلة ضرتها في غضب؛

ماذا الذي جاء بك إلى هنا؟!

متى خرجت من السجن؟!

ثم نزعته من بين يديها، أمرته بالابتعاد عنها ، وطلبت منها أن تغادر المكان فورا.

إلا أنه ظل واقفا في مكانه مذهولا، مرتبكا

صاحت نرجس بها :

هذا بيت زوجي، ولا يحق لك طردي منه؟



_ لازلت تملكين قدرا هائلا من الوقاحة.



_ أنا زوجته الأولى وعشقه الحقيقي، َوزواجه منك لم يكن إلا مجرد غلطة.

_ هل أصاب عقلك مس من جنون؟!

همست نرجس في ثقة :

لا تخافي بعد أن يطلقك سأجعله يعوضك ماديا، سأجعله حتى يترك لك هذه الشقة.



ثم التفت نرجس إليه وقالت له :

حبيبي... هيا بنا.

كان هو يشعر ناحيتها بانجذاب شديد،حتي أنه هم بالسير معها كالمنوم، صوب الخارج.

صاحت جميلة في غضب :

بعد أن قتلت أبوه ، تريدين أن تاخذي ابنه لنفسك؟!

التفتت نرجس إليها مذعورة:

إلا أنها استطردت قائلة :

يبدو أن سنوات السجن قد أتلفت عقلك.

صرخت نرجس : أنت كاذبة



على عجل جلبت جميلة سكينا كبيرا من المطبخ، حركته بقوة أمامها فانعكس ، ضيه في عينيها، قالت وهي تبكي :

،منذ سنوات بعيدة، طعنت أبوه بمثل هذا السكين.



ثم أقبلت بسرعة عليها محاولة أن تطعنها به، غير أن ولدها أدم ، دفعها بعيدا عنها، ثم نزع السكين بصعوبة من بين يديها، حتى جرحت يداهما، وسالت دمائهما ممتزجة على بلاط الأرض.

سقطت نرجس ، وقعت على بقعة الدم الكبيرة، تذكرت بغتة، في صدمة هائلة ما فعلته،بعمر زوجها حين علمت بزواجه من جميلة ، وكيف طعنته بسكين المطبخ،ولكن كيف كانت هي قد نسيت تماما تلك اللحظة؟!

كيف أسقطتها من ذاكرتها كل هذه السنوات ! ؟

شعرت بالأرض وهي تلف بها، وكأنها تدور في دوامة عنيفة من الذكريات والأحداث...

هل هي في سنوات سجنها كانت تحسب أن موته مجرد خدعة خبيثة ؟!

إنها دوما كانت تردد لكل من حولها أنهم أتوا بها ظلما إلى هذا السجن الموحش.

تذكرت كل هذا ثم صرخت بقوة هائلة : لا. .

همست جميلة لابنها آدم وهي تبكي ،بينما تحاول أن تضمد الجرح الكبير الذي أصاب يديه :

كيف تدافع عن قاتلة أبيك ؟!



الأمر العجيب أن آدم الذي صار شبيها لأبيه عمر تماما تجاهل كل ما قالته أمه، وانحنى على الأرض محتضنا نرجس ،

التي توقفت عن البكاء.

هدأت تماما بعد أن ضمها إليه، ثم نهضا من على الأرض، و سارا معا إلى خارج البيت.

صاحت جميلة في جزع، والدماء تنزف من يديها : آدم... ولدى ؟!
ولكن آدم مضى مع نرجس ولم يلتفت إليها !!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى