د. سيد شعبان - الملائكة تسكن السماء

بعض المفردات تتسرب في غفلة،أنا حاطب ليل شتوي، حين تركنا الجسر؛ هروبا من سباق المسافات الطويلة كان كل شيئ هادئا في الجانب الغربي، بقيت مدن الملح بتهويماتها ساخطة، حاولت جاهدا أن أظل بعيدا؛ علل جسدي لا تشفى، إنها متلازمة الفقر والمرض لا انفكاك بينهما، يراني البعض وليا جاء في آخر الزمان، لكن الكرامات لا تصلح في عالم تصرعه أمواج من الرغبة الفاجرة، كل البحار مصابة بالأسن، مضت سنوات لم أعد أتذكر الأحداث التي مرت، كل تفاصيلها مرتهنة بأمل قد يأتي، ثمة ندوب في وجهي، تشير ﻷشياء مرت بي، رغم كل شيء ظلت عابرة، في هذه البلاد لا بقاء لغير الفاجعة تظل ماثلة، كانت جدتي الخضراء-رحمة الله عليها- تخبرني: زمن القحط كانوا يملؤن بطونهم الضامرة بحكايات ليل القهر المشبع بالسوط، أعود محملا بجراب مثقل بكل هذا، عند عتبة البيت الذي سكنته العناكب، تتقافز أسراب الخفاش محدثة فوضى تعم المكان.
تعود تلك النتوءات مصرة أن تحتل الواجهة، مشى الزمن إلى قدره، يتبعه حارس أعمى، في بيتنا لا حديث غير هم الأفواه التي سكنتها المجاعة.
تتندر امرأتان بحلم الدجاجة الجائعة حيث سوق الغلال. هذه تشتهي عطرا يجلب الزوج الذي فر، وأخرى تبيت على وعد بقادم فوق حصان أبيض؛ وإن كانت الجياد مهازيل؛ هكذا أخبرتني الجدة الطيبة، إنها تروي من معين لا ينضب، أحب حديثها، تعطر حياتي بتلك الخيوط المنسوجة بغلالة الفجر.
يلف الصمت خيوط سواده، لابقاء لغير أنين الوجع حيث تعزف الساقية لحنها الأخير ساعة يبكي الرجال من أثر الذل المكبلين به، إنهم يصنعون سادتهم من ذلهم، يقيمون معابد لمن دنس محارمهم، ليت جدتي لم تترك في ذاكرتي كل هذه الندوب، جعلتني أسير الوهم؛ كﻻمي يتربصون به ريب المنون، يسخرون من تلك البدايات التي سطرتها في كراستي التي يوما كانت تسكن حقيبتي، في بلد العميان يبقى الذي يحمل المشعل مجنونا.
تخلصت من الكراسة الأولى، تماديت بأن ألقيت بمحبرتي عرض النهر، هذا كل ما بقي في ذاكرتي المصابة بثقب يتسع كلما ضرب البحر بموجه الهادر ذلك الشاطيء في البر الغربي.
لا يحبون من يقدم نصحية، يودون لو أنهم بادون يتقممون الجهل، يصعب على من كبله القيد أن يطمح إلى بوابة السماء.
لست وليا، هذه جناية قد تقودني إلى ساحة مظلمة، أو لعلني أرقص في العراء عازفا اللحن الأخير؛ في كل مكان يتركون عيونهم، ليتني تعاميت وسرت مجذوبا.
نعم هذا أنا: المجذوب !
لدي عينان تجوبان في مغارة تصطدم بأنف يعلو وجها نحاسيا، شعري الأبيض يغطى ذلك اللون العجيب، خرقة من صوف صنعتها لي أمي، لم تلق بي في الفرن، رغم هذا البؤس الذي عانته حين وضعتني في عام المجاعة، تؤمل أن يمتد بي العمر، لكن الأنثى التي عرفتها يوما ابتلعها البحر.
تنتابني حالة من الوجد، أتطوح في الهواء، يوما علوت مئذنة المسجد القبلي، حقا اقتربت من بوابة السماء؛ يقولون: سري باتع!
هذه من ضلالات الزمن اﻷول؛ فالأولياء لا تنكشف سوءاتهم، قذفني بالحجر؛ تلبستني حالة من الجنون، هممت بأن ألقي بنفسي حيث العالم العلوي.
كنت عاريا، يبدو أن أمي لم تر حاجة لتستر عودي القش، أو لعل خرقة الولي تكون هكذا أفضل.
لكن الأرض لا تصلح سكنا لتلك اامخلوقات العلوية؛ إنها لا تعرف الكذب، قالت لي أمي ذات ليلة حين أنامتني في حجرها؛ جدك كان مسكونا بحب جنية حمراء، خطفته وأسكنته قعر النهر.
يبدو أنك ستغيب مثله سنين دونما عودة، أشعلت النار، وسمتني في خدي، صرت المجذوب الذي كوته أمه.
لم تكتف بما فعلت؛ ثقبت أذني وضعت به قرطا نحاسيا.
يطلقون علي سيدي المجذوب أبو حلق!
تماهيت مع نبوءة الغجرية التي زارت قريتنا في زمن المجاعة؛ ستكون له وجاهة، يمتلك محبرة وسن قلم يشغب به على ساكن البيت الكبير؛ حذرت أمي أن تبوح بهذا السر؛ له في كل خرابة ثعبان، ومن يومها وأخفتني في قماط أبيض، تمادت في التكتم.
بدا لي أن أخرج على الناس عاريا من تلك الخرقة، لأكن المجذوب؛ فاللقب يصير ذا دلالة حين يتلبس به صاحبه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى