مصطفى نصر - الحادث..

1 – شخصيات تمهيدية

ششتاوي
اسمه بالكامل: ششتاوي رمضان أبو غريب. وقد ذكر اسمه مجردا لأنه لم يذكر بالكامل إلا في المناسبات؛ وفي مرات قليلة طوال حياته، كان آخرها عندما تزوج لواحظ. قبلها كان متزوجا من امرأة في العزبة ماتت منذ عام تقريبا. حزن ششتاوي عليها كثيرا فقد تركت له ثلاثة أطفال أكبرهم حسنى الذي يبلغ العاشرة الآن.
يرتدى ششتاوي قفطانا قصيرا من العبك؛ ويسير حاملا فأسه على كتفه. يزرع قطعة أرض قريبة من المصرف التابع لشركة الورق.
الباشا؛ صاحب الشركة، يسمح له بزراعة الأرض نظير اشتراكه في حراسة المخازن. فأرض المخازن واسعة، وورق الدشت الموضوع بها؛ لا يملأها أبدا.
لا يخلع ششتاوي قفطانه إلا نادرا، ولا يلبس الحذاء. وعندما تزوج لواحظ - منذ شهور قليلة – أصر عوض شقيقه الأصغر أن يلبس الحذاء. رغم أن عوض الأصغر؛ فششتاوي يحترمه ويقف له عندما يراه، فالعزبة كلها تحترم عوض وتقدره، ويؤدى هذا – بالطبع – إلى تقدير الناس لششتاوي.
لواحظ؛ زوجته الجديدة، طويلة وجسدها ممشوق وشعرها مائل للاصفرار. لم يفكر ششتاوي في الزواج منها، رغم أنه يراها كثيرا، عندما تأتى مع أبيها ليحملا أكوام الفجل والجرجير – التى يزرعها ششتاوي – ليبيعها أبوها أمام باب شركة الورق. عارض ششتاوي شقيقه عوض عندما عرض عليه الزواج منها، قال:
- البنت صغيرة، وقد لا ترضى بشيخ مثلى.
لكن أبا لواحظ – الذى يصلى العشاء كل ليلة معهم في المسجد – وافق وقال فرحا:
- يكفي أننى سأصاهر عوض أفندى.
لم تعارض لواحظ. فهى لم تكن تنتظر رجلا محددا للزواج. كل حلمها أن تتزوج والسلام، لترتاح من قلقها الدائم من ألا تتزوج أبدا لفقر أبيها الشديد.
فرح ششتاوي بها، فهى – فوق جمالها الواضح – نظيفة، لا تبصق على أرض الحجرة – كما كانت تفعل زوجته التى ماتت – وتغسل ملابسه وملابس أطفاله أولا بأول، وتغسل وجهها كثيرا، وتهتم بزينتها.
وصاها أبوها بأن تحسن معاملة أطفال زوجها – اليتامى – خشية أن يغضب عوض أفندى – عمهم – ويفضحه في المسجد الذي يتقابلون فيه يوميا عند صلاة العشاء.
المعلم بكرى
يعمل بكرى رئيسا لعمال شركة الورق، يرتاح الباشا – صاحب الشركة – لعمله، فهو مهاب من كل العاملين، لا يستطيع أحدهم أن يعصى له أمرا. فكل العاملين – تقريبا – من العزبة التى يعيش فيها بكرى، أو العزب المجاورة لها، وكلهم يقدرونه ويخشونه.
عوض رمضان أبوغريب
قصير ونحيف بعكس شقيقه ششتاوي القوى العملاق، يلبس نظارة وطاقية بيضاء فوق رأسه؛ ليخفي صلعته التى ظهرت قبل الأوان، يعمل مدرسا في مدرسة ابتدائية قريبة من العزبة التى يسكنها.
يقوم كل عام بحصر الأطفال الذين وصلوا لسن دخول المدارس، يطلب من أهلهم أن يمدوه بشهادات ميلادهم وصورهم، ليقوم بالتقديم لهم في المدرسة التى يعمل بها. لا يطلب منهم ثمن الأوراق والتمغات التي دفعها، إذا كانوا فقراء لا يقدرون على الدفع.
يقرأ كثيرا في كتب الدين. ورغم أن بكرى هو الذي يؤم الناس في صلاة العشاء ؛إلا أن عوض هو الذي يخطب خطبة الجمعة، ويعظهم ويحكى لهم عما قرأه في كتبه الصفراء.
كان عوض يرى البنت لواحظ بشعرها الأصفر وعينيها الزرقاوين؛ تقف تبيع الجرجير والفجل أمام باب شركة الورق، يعرفها عوض منذ صغرها، ويخشى عليها من الشبان الذين يعملون في الشركة – خاصة الذين يأتون من أماكن بعيدة، ويرتدون السراويل، ويدهنون شعورهم بالزيوت – فالبنت جميلة وفقيرة وقد تنبهر بهم. لذا؛ فكر في أن يزوجها لششتاوي – شقيقه الأكبر- فقد حلت زوجته – السابقة – المشكلة بموتها.فكر عوض في هذا منذ أن كان يسير ناحية المدافن لدفن زوجة شقيقه.
كان يسأل عن حال لواحظ، وعن معاملتها لأطفال أخيه، وكان ششتاوي يدعو له بالخير لأنه السبب في سعده بزواجه منها.
2 – الحــــــــــــادث
ذهبت لواحظ إلى " المصرف"؛ تحمل الأواني لتغسلها هناك. كان ذلك بعد العصر بقليل. فأخذت معها الولد حسنى – ابن زوجها – الذى أمسك ببعض الأوانى ليساعدها، وحملت هى الباقي على رأسها.
تعرف لواحظ أنها جميلة، لكن الأرزاق لا توزع بقدر الجمال. فششتاوي أكبر منها بسنوات كثيرة. كما أنه – رغم زراعته للفجل والجرجير – ليس غنيا.
خوض حسنى في الماء، وضع ما معه من أوانى أمامها، وجلس على حافة المصرف يلعب بالأوراق الجافة التى تلقيها الشجرة الرابضة خلفه. ثم أخذ يلقى بالطوب الصغير في المصرف متابعا الدوائر الصغيرة التى يحدثها الطوب في الماء.
في ركن بعيد من المصرف كان عبد البارى يجلس على الحافة؛ ممسكا بقطعة طويلة من " الغاب " ليصطاد السمك.
شمرت لواحظ عن ملابسها وانحنت لتغسل الأواني. فوجئ عبد البارى بها وهى منحنية؛ ساقاها الطويلتان أمامه.
الشمس غابت، والسائرون يقلون في ذلك الوقت، كما أن هذه المنطقة تبتعد عن المارة، فهي عبارة عن منعطف يحده من الجهة الأخرى حائط كبير ومرتفع لشركة الورق.
جسد المرأة أمام عيني عبد الباري تماما، كأنما تقصد أن تثيره. هي لم تره، والولد حسنى – أيضا – لم يره، فهو يجلس في ركن منزو.
نسى عبد البارى بوصته وظل متابعا لذلك الجسد، ثم أسرع إلى الماء، خاض فيه حذرا.
مل الولد حسنى من رمى الطوب وصنع الدوائر الصغيرة في الماء، فأخذ يلعب حول الشجرة الكبيرة، يقفز من فرع لآخر.
التصق عبد البارى بالمرأة، صاحت فزعة :
- ما هذا، ما هذا ؟!
لكن عبد البارى كان قد أحكم التصاقه. ارتعشت يد لواحظ التى تحمل الطبق، فوقع وطفا فوق الماء. ابتعد قليلا عنها، كان من الممكن أن تمد يدها لتلتقطه.، لكنها لم تفعل، اكتفت بمتابعته وهو يطفو.
زامت، ألجمتها المفاجأة في البداية، لكن بعد ذلك شعرت بالتلذذ، ونسيت ابن زوجها، ونسيت أوانيها التى تبتعد عنها. لم تسأل لواحظ عبد البارى من يكون. وهو لم ينطق. لم تسمع سوى صوت تنهداته، وتعبيرات النشوة.
عاد الولد حسنى إلى المصرف، رأى ذلك المشهد أمامه. صمت لحظة من هول المفاجأة ثم صرخ :
- عبد البارى يفعل في زوجة أبى.
هبت هى بجسدها في الماء، صاح عبد البارى :
- توقفي، توقفي.
نظرت إليه. تعرف – هى – عبد البارى – زوج صديقتها – صابحة -. ولديه منها خمسة أطفال، لكنها تراه الآن شخصا آخر. تحس بأنه قريب جدا منها؛ وكأنها تعرفه منذ زمن بعيد. لم تهتم لواحظ به من قبل، ولم تعرف عنه أنه يخون زوجته أو أن له علاقات نسائية قط. كل ما تعرفه عنه أنه جاد في حياته، ويحرص على صلاة العشاء في المسجد مع باقى رجال العزبة ( في الوقت الذى يكون معظم أهل العزبة موجودين ) ويحرص على سماع وعظ عوض أبو غريب مدرس الإلزامي :
- يا فضيحتى، الولد سيفضحني في العزبة.
عاد عبد البارى إلى أشيائه مهموما، تبعته هى :
- ماذا ستفعل يا مجنون؟
لم يجبها، جمع أشياءه، لم يكن حريصا عليها، لكنه من فرط دهشته مما حدث، لا يعرف ماذا يفعل.
جرى الولد حسنى بأقصى سرعة يملكها، وصوته الحاد انطلق، أخترق النوافذ والشرفات والجدران، وصل للناس داخل بيوتهم :
- عبد البارى فعل مع زوجة أبى في المصرف.
تجمع الناس حوله، كان يبكى. خرج ششتاوي من بيته على أثر صوت ابنه :
- ماذا حدث؟!، قل.
لقد خرجت لواحظ مع حسنى أمامه، قالت : " سأغسل الأوانى في المصرف " لم يكن الولد راغبا في الذهاب معها، وأشفق هو على ابنه. فالولد يريد أن يكمل لعبه مع أقرانه أمام باب البيت. قال ششتاوي وقتها :
- دعك من الأوانى واغلسيها في الغد.
لكنها أصرت، قالت إنها لن تجد أواني نظيفة، تضع فيها طعام العشاء، كما أنها تخاف من الذهاب إلى المصرف وحدها في ذلك الوقت المتأخر.
سار عبد البارى متخاذلا، ولواحظ تبكى بجانبه :
- ماذا سأفعل الآن؟
هو أيضا؛ لم يكن يعرف ماذا سيفعل. زوجته – لاشك – قد علمت بما حدث. ولعلها تبكى الآن حظها الذى مال. وأطفاله الخمسة وأقاربه وششتاوي وعوض أفندي والمعلم بكرى –رئيسه في شركة الورق- كيف يستطيع أن يواجه كل هؤلاء؟!
كان أهل العزبة يتهيأون للذهاب إلى المصرف ومعهم الولد حسنى الذى كف عن البكاء. ششتاوي يلعن ويسب ويهدد، وعوض – الذى خرج بقفطانه الأبيض مع حرصه على أن يخرج دائما ببذلته كاملة – أمسك أخاه وشده ليمنعه من التهور.
وجدوا عبد البارى آتيا حاملا بوصته الطويلة وقفته الصغيرة الخاوية بلا سمكة واحدة، ولواحظ تسير خلفه متخاذلة بدون أوانى؛ تبكى. الأوانى؛ مازال بعضها يطفو داخل المصرف.
أراد ششتاوي أن يهجم على عبد البارى، لكن عوض أمسكه من يده :
- ابتعد، لا تضيع حقنا.
لواحظ فاجأها المنظر، رجال كثيرون آتون، ونساء وأطفال، الكل مشدوه لما حدث.
صاح ششتاوي:
- شرفي يا ناس.
أمسكه بكرى بيده السوداء الضخمة قائلا :
- حقك لن يضيع.
هربت لواحظ. أسرعت، سارت وسط الأراضى الزراعية، تخبطت، إلى أى مكان ستذهب. بيت ششتاوي لم يعد ممكنا أن تعود إليه، كيف ستواجهه، وتواجه أولاده، خاصة الولد حسنى الذى رآها بعينيه، ولن تستطيع الذهاب إلى بيت أبيها، فكيف ستواجهه وتواجه أمها وأخواتها البنات؟!
عندما أحست لواحظ أن الرجال ابتعدوا عن طريقها؛ ارتمت على الأرض وبكت. كان الليل قد شمل القرية كلها.
أحنى عبد البارى رقبته أمام البكرى – رئيسه في الشركة –
- ماذا فعلت يا عبد البارى؟
لم يقل شيئا، كان صمته ورقبته المنحنية دليل إدانته.
ششتاوي – لأول مرة – لا يخضع لإرادة شقيقه عوض، فيحاول أن يفلت من يده ومن أيادى كثيرة تحاول منعه:
- ابن كذا وكذا.
لم يتأثر عبد البارى بكلماته، لم ينظر إليه. كان يسير لم يزل، الرجال تتبعه في اهتمام ودهشة. قال بكرى :
- التحقيق في دارى بعد صلاة العشاء.
سار عبد البارى وحده، زوجته – صابحة – في البيت الآن. لم تأت مع النسوة اللائى جئن لرؤيته، ولم ير طفلا من أطفاله العديدين أمامه.
أين سيقضى الوقت لحين انعقاد مجلس التحقيق؟! حكايته تلك؛ ستكون حكاية العزبة – والعزب المجاورة طوال الليل ولليال كثيرة قادمة، ستلوكها الألسن فوق الأسرة، ستجعل الليلة أكثر سخونة من كل الليالى التى مرت.
لعلهم في القهوة – الآن – يتناقشون فيما فعل.
عاد عبد البارى إلى المصرف، جلس بجوار الشجرة الكبيرة التى كان الولد حسنى يلعب فوقها.
3 – التحــــــــقيق
في المجلس؛ جاء عبد البارى متخاذلا، لم يحي أحدا، كان بكرى يجلس في صدر البهو الكبير، وعدد كبير من الرجال يجلسون، عوض أفندي يجلس بجوار بكرى، وششتاوي يجلس فوق الأرض تحت أقدام شقيقه وبكرى. قال بكرى:
- تعال هنا يا عبد البارى.
لوى ششتاوي رقبته وزفر، فوضع عوض أفندى يده فوق رأسه ليسكته.
انتهت الجلسة بأن يدفع عبد البارى ألف جنيه لششتاوي عقابا له على ما فعل. وأن يأتى بالمبلغ في الغد إلى بكرى.
انفض المجلس، عادوا إلى بيوتهم، كانوا يتحدثون، كل مجموعة تسير معا. وعبد البارى وحده، من أين سيأتى بالألف جنيه؟!
قلق هو من أجل صابحة – زوجته – وأولاده. ترى ماذا يفعلون الآن. ستواجهه زوجته حتما بعاصفة شديدة من الزعيق والسباب، رغم أنها لم ترفع صوتها عليه منذ أن تزوجها، ولم تحدثه بكلمة جارحة.
سار في الظلام. البعض يقابله، يتفرس في وجهه، يحييه البعض، أو ينظرون بعيدا عنه. في طريقه إلى البيت قهوة زايد التى كان يجلس عليها من وقت لآخر؛ يدخن المعسل ويلعب الدومينو. إذا ما مر أمامها الآن؛ سيسخرون منه، أو قد يسبونه. لذا؛ فضل أن يسير من طريق آخر.
دق باب بيته، فتحت ابنته، لم يحدثها، نظر حوله. كانت الحجرات مظلمة. المصباح الغازي خافت على غير العادة. جاءت زوجته من إحدى الحجرات، في عينيها بقايا دموع. نظرت إليه دون قول. سار إلى حجرته، خلع حذاءه الذى لم يخلعه منذ أن خرج للصيد بعد الثالثة بقليل، اقتربت زوجته منه :
- بكم حكموا عليك؟
- ألف جنيه.
- من أين ستأتى بهم؟
- لست أدرى
خرجت من الحجرة، نامت مع أطفالها في حجرتهم ( أول مرة تفعلها منذ أن تزوجها ) لن يستطيع أن يقترض من أحد في العزبة. لو كان لشيء آخر غير الذى حدث؛ لأقرضوه. كما أن زوجته لن تعطيه مصاغها ليبيعه. ليس لديه سوى القراريط القليلة التى ورثها عن أمه والتى يؤجرها. فالعمل في شركة الورق يكفيه ويغنيه.
في الصباح ذهب إلى بكرى:
- ها، أتيت بالنقود؟
- لا، أريدك أن تساعدنى لكى أبيع أرضى
- ليس لديك شيء آخر سواها لتبيعه؟
- أجل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى