سعد محمود شبيب - ملحمة عبد الصبور العراقي..

كلما دخل عبد الصبور عليها، وجدها تضرب العجين، وتلعن الكون والدنيا والدينار والقدر، وكلما برح الدار .. رمته بحجر بعد أن يقذفها بحجر..
سنوات طوال وهو على ذي الحال، تطويه هموم الليل ليجد نفسه بأحضان زوابع النهار ، يفطر حسرة وآلاما ويحتسي الشاي ساخنا على نار عبراته ، ويسرع الخطى نحو عمله ، يضع إمضاءه في سجل الحضور الخالد ، ثم ينسحب نحو حجرة مدير ليست له من مهمة سوى توبيخه ، تملقا لمدير لا هم له سوى توبيخ الجميع ، كي يتمم عملا تافها رتيبا خدمة لوطن لا يمتلك على أرضه شبرا.
أكل المشيب نضارة شبابه والتهم الفقر والحزن أحلى سني عمره، وبقيت حياته كما هي دون تغيير، دارت الأيام وتلاطمت الأفلاك وشحب وجه الكون ، وبقي أسيرا لما اعتاد عليه كأنه سجين تلازمه بدلته الداكنة ، في حين تعلقت ربطة عنقه كتميمة أبدية تحرس جسده المترهل البدين من عاديات الزمان .
صعق عبد الصبور ذات صباح حين وجد نفسه قد جاوز الستين، وأصيب بذهول تام لما شعر ان عشرات السنين قد تقافزت على كتفيه نحو العدم ومرت خلسة الى جانبه وانتحرت حسرة بين أكمام قميصه الوحيد، وأن الحياة التي عاشها برمتها لم تك سوى صحراء قاحلة أفضت الى صحراء اكبر ، لم يحقق في عالم الأدب الذي عشقه في صباه نجاحا يذكر ، تزوج من عاشقة للشعر مثله ، ثم نسيا الأدب والشعر وأصبحا يتلوان معا قصيدة الفقر؛ أخذت الوظيفة البائسة منه كل مأخذ فصار همه الأكبر أن لا ينقرض وعياله متسترا بمرتب ضئيل أضيق من فتحة كف البخيل.
قرر ان يعيش يوما يختلف عن ألوف سبقتها نحو لا شيء ، شعر أنه لن يبلغ أسوأ مما هو فيه إن ثار ، وان النار لن تضر من كان رمادا..
انطلق مثل سجين تساقطت أسوار حبسه جميعا على حين غرة ومات حراسه ، ومضى ليتمم رحلة حريته ، كان يتلمس دنيا لم يلمح جمال أيامها من قبل، لعله يعيش يوما واحدا يختلي فيه مع نفسه وأن يرتاد مطعما أو يسهر خارج داره وهو الذي لم يتأخر ليلا منذ عقود ..
لم يتجه الى العمل وحث الخطى نحو حديقة غنّاء كبيرة واستلقى على عشبها الأخضر الطري ، ظل يتذكر لحظات عشقه الأول ونسمات طرية تداعب أنفاسه ، نظر الى جمع من العشاق وتمنى ان يكون منهم، ثم حال بينه وبينهم طود من مشيب، مثلت أمامه عشرات الأماني، أن يركض بفرح ولا يشعر أن وراءه كمد مهين ، أن يعتلي ربوة عالية ويكون غمامة تمطر خيرا بعد طول جدب وقحط ، يلهو كالأطفال فلا يظن مخلوق أن عليه علامات جنون
أحس بجوع قاتل ، فاتجه نحو مطعم الحديقة الفخم ، ووجد رواده بأعمار أولاده وكل منهم يجالس فاتنة مثل شمس ، طلب لائحة الطعام ، صعق حين وجد ثمن الوجبة يعدل نصف مرتبه ، وأنه لو شبع فعليه أن يجوع وعياله حتى نهاية الشهر ، انتحرت أمانيه وبرح المكان غاضبا وهو ينظر الى عجلاتهم الفارهة ... تساءل عن عمل آبائهم ، ثم كتم الجواب الذي يدركه..
لاح أمامه منظر عجوز تبحث بين الأعشاب عن بقايا طعام، ومسن ينظر نحو لا شيء بوجوم مصطحبا ولده الذي سيتمم مسيرة الوجوم، سار وسط حشد من متظاهرين يطالبون منذ دهر بأبسط الحقوق، انتظر حتى خرج اليهم مسؤول بدين ، فعاهده والمتظاهرين ، بقانون ثروات أمين ، يطبق عليهم قبيل يوم الدين، فعادوا إلى جحورهم نادمين ..
تجمهر من حوله عشرات الصبية الصغار، تبسم اليهم وأوقدت فيه الحنان أنوار براءتهم، ثم استشاط غضبا وحزنا حين وجدهم محض يتامى بتسولون !
وقف قبالة وجه بلد تراقص شمسه الغني وتحرق البائس الفقير ، وشعر ان اليوم الذي ابتغى فيه السعادة لن يكون، لطالما كان وطنه مأسورا بيد المنون ، اتجه من فورته نحو مقر عمله .. وبخه مسؤوله عن التأخير ، فوكزه من صدره بشدة واصفا اياه بأتفه التافهين، ثم دلف حجرة مديره العامر وطلب من السكرتير أن يقابله ، امتنع الأخيرعن الاستجابة الى طلبه ، فأمسك عبد الصبور برقبته حتى كاد ان بخنقه وهو يصرخ فيه :
- أين المدير ؟
- لن تجد المدير.. هو بين يدي الوزير ..
- وماذا يصنع ؟
- يشاطر الوزير سرقاته .
- اذن فسوف أقابل الوزير .
- ولن تجد الوزير لأنه بين يدي الرئيس ..
- وماذا يصنع ؟
- يشاطر الرئيس سرقاته ..
- فدلني على مكتب الرئيس..
- لن تجده ..
- ويحك.. وماذا يصنع الرئيس ؟
- خاشع في المسجد بين يدي ربه .. يستغفره عن سرقاته ..
اغشي عليه ، أعادوه الى داره الأشبه بقبر قديم، يتوسد فراشا بائسا شاطره مرارة حياته .. حتى اصبح رثا غير ذي جدوى كعمره..
عاد الى امرأة كلما دخل عليها وجدها تضرب العجين، وتلعن الكون والدنيا والدينار والقدر، وكلما برحها .. رمته بحجر .. بعد أن يقذف نفسه بحجر!!



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى