د. مصطفى الضبع - الفيلسوف.. قصة قصيرة

قبل أن ألتقيه، قرأت كل مؤلفاته، لم أتوقع أن أراه يوما وأن تتوطد علاقتنا فأنشغل عن مؤلفاته به ، وبما اكتشفته فيه ، فيلسوف ومترجم ومفكر تعتقد قبل رؤيته أنه منصة لإطلاق المؤلفات الرصينة .
عرفت مشاركته في مؤتمر الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة، دبرت أمر الذهاب، تابعته وهو يتحدث عن الأدب العالمي كأنه واحد من أعلامه، بانتهاء المحاضرة تابعته حتى باب الخروج ، كان ودودا وهو يودع الذين تابعوه .
راقبته عن بعد، توقعت أن يتصل بسائقه أو يروح إلى سيارته الفارهة ، ولما غادر المكان في اتجاه باب الخروج ، خمنت أنه ركن سيارته في مكان ما ، تابعت سيري وراءه بأمتار تسمح لي برؤيته عن قرب ، رحت أتذكر ترجماته المبحرة في الأدب العالمي .
متثاقلا كان يسير ، فشلت كل تخميناتي حين خرج من مبنى الأوبرا ووقف قرابة ربع الساعة حتى يتوقف له تاكسي حمله إلى البعيد.
ربما مرت شهور لم أحصها حين دعيت للمشاركة في مؤتمر بالكويت ، لم أكن أعرف المشاركين لكنني حين فوجئت به في صالة السفر توقعت ذلك ، كنت أعرف أنه أعير سنوات لجامعة الكويت .
في الصالة وفي الطائرة وفي الوصول ظللت محافظا على المسافة بيني وبينه ، وفي الفندق بدا كأن الجميع في انتظاره ، كانت حفاوتهم به أكبر مما توقعتها ، وفي افتتاح المؤتمر كانت الحلقة الثانية من الاحتفاء به ، بدا سعيدا وهو يصافح الجميع بأدب يكفي لعشرين شخصا ينتمون لأسر راقية ( ربما بدا الخاطر غريبا لكنه عبر مخيلتي ).
في كل أسفاري تعودت على زيارته في الليلة الأولى، الأرق الذي أستعد له بالسهر مع الأصدقاء، ولما كان الجميع منشغلين تسللت خارج الفندق قاصده.... الخليج .
كان الطقس مناسبا والأمواج تمارس حركتها الهادئة، على مدى البصر كان الشاطئ خاليا تماما، على أقرب مقعد حجري جلست ، حاولت التشاغل بالتحديق في المياه حين سقط ظل على الرمال ، ألقى التحية وقبل أن أفكك صدمة المفاجأة جلس ، كأننا لسنا في حاجة للتعارف ، وكأن التعارف مساحة نخوضها منذ سنوات .
لم أنتبه للوقت ربما مرت ساعة انتقلنا فيها بين العوالم المتاحة ، كأننا نقرأ كتابا واحدا أو نكتب سطورا مشتركة ، بدا يعترف أو يكتب تاريخا سريا لشعب يمارس صناعة مستقبله ، كان يزيل كل القشور ويعري كل شيء حتى الأمواج بدت عارية دون ورقة توت أو مجرد غيمة تستر وجودها المؤرق ، علاقته القلقة بابنه الأكبر ، إدمان الابن ، تلميذه الذي منحه الماجستير والدكتوراه ثم خانه وانقلب عليه ، المؤسسة التي اشتغل فيها سنينا قبل أن يضطر للرحيل عنها بعد أن أصبحت المؤامرات فيها أكثر من نوافذها ، الصحفي الذي صادقه زمنا قبل أن يكتشف أنه مدسوس عليه ، المثقفون الذين يتبرعون بمعاداته لكونه ليس ضمن برنامجهم التآمري ، أستاذ الشريعة المتبرع بالشر كأنه أحد رسله، زوجته التي لم ترث من والدتها سوى شحنة من العلل النفسية سربتها بدورها للأجيال التالية من الأحفاد ، العميد الذي كانت يده ترتعش كذبا وهو ينقل له عدم رضا إدارة الجامعة عليه لأنه لا يتوسط لرئيس الجامعة للظهور في أي قناة فضائية ، الأستاذ الكبير الذي باع رسالة لباحثة عربية ودعاه ليشاركه مناقشتها ، الأستاذة الكبيرة التي تتاجر بكل شيء بداية من الأبحاث ، وكيل الكلية الذي يصرف أدوية من مستشفى الجامعة ويبيعها للصيدليات ، رئيس القسم الذي افتتح كشكا لبيع الوجبات الخفيفة لأعضاء قسمه الأستاذ المتفرغ لاصطياد الفرص محولا مكتبه دكانا لبيع الدمغات وكروت الشحن و ملفات الالتحاق بالجامعة، الأستاذ الذي ... والمعيد الذي ..... والوزير الذي ..... ، ورئيس الجامعة الذي ...ووووووو.... بدا كأنه يقشر وردة جافة ، كانت رائحة مغايرة تفرض نفسها على المكان ، للحظة سيطرت علي مشاعر متضاربة ، كنت أنظر في مرآة لامعة .
مع تقدم الوقت كانت الحرارة تتصاعد ، بدا البحر يحترق والمياه تتبخر والصحراء تزحف ، والنجوم تخفت ، بدا مستعدا لقول كلمته الأخيرة ، أمسك يدي ، سحب نظراتي لأعلى ، تلاقت نظراتنا عند حد الأفق وقفزنا إلى الفضاء.
خبر جانبي في صحيفة يومية:
لليوم الثاني استمرار أعمال مؤتمر النزاهة الجامعية دون أية أخبار غير طبيعية .

د مصطفى الضبع / مصر



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى