محمد عبدالعزيز أحمد (محمد ود عزوز) - نزوات مضنية للمخيلة

وانا كُنت ابن الأحياء الطرفية للفاجعة ، ابن المجاري الممنوعة من الصرف بأمر السُكان ، ابن الصخب الصباحي ، بائعِ الخرد ، وابن الجروح الوطنية الغائرة في الروح
والتقينا هكذا ، عرفتك من مشيتك ، أنتِ فتاة الحُلم
الحلم الذي لم احلم به ، الحلم الذي لطالما حاولت الحلم به لكنه يفلت ، الحلم الذي هو انتِ
هكذا مازحتني المُخيلة كذبت وهي صادقة ، او صدقت بكل الاكاذيب الممكنة
فصرخت من البعيد ، وكان الصوت مهذارا ، يُمارس التغابي ، يرفض الانسياق خلف حُلم
لكنني رغم انفه صرخت
جئتك هكذا ، بقفازات لزجة ، اردت أن تتطبع اصابعك على جسدي ، على ظهري ، على جرح المدينة في ، على اوردة الشارد من الحديث ، على الصفيحة الزجاجية للحظة
وقلت ااه صغيري
انه انت ، الخارج من رحم اسئلتي وبحثي المُضني عن رجل لازال يمسح غبار الركض الطفولي ، انت ايها الناضج بتعمد ، انت ايها الشفاف كربيع غير مُتصنع الشهوات
وكنت فرِحاً لأنني اصبحت صغيرك
انا الذي اكبرك بوطن ، وجرح وذاكرة
ولكنني سعدت حينها ، لأن في تلك اللحظة تفشت اورام الوصول المضنى ، وسحبتني المشيمة الى نقطة ما ، حيث الاعطاب يمكن اصلاحها
اخبرتكِ وإن لم يكن الحوار حواراً بالمعنى لقد تحدثت الاعين بأكثر مما تتسع له الابجدية
اخبرتك عن جرحي في الآدمية ، عن عشقي للنوافذ المشرعة ابداً نحو حنين يترقب ، عن الطُرقات التي لا تحترم الاحذية ، عن الاشجار التي تتشجع لتطرق باب الحطاب تُطالب برأس الفأس
وضحكتِ ، ذلك أن المجاز هو نكته القصيدة اللطيفة
ضحكتِ رغم أننا لم نحتج الى اللغة
حدثتني عن النافل من الأوطان ، عن لعنة الاسم واللون ، والهوية الجالسة في ركن المواساة
انحن نملك ما يكفي لنكون؟
سألتي ولم يكن للسؤال حجج تلفظه ، كان طازجاً ، ومُربكاً ، لزجاجات الكيمياء التي تتوسطنا
انملك اجسادا ، غير خاضعة للرقابة ، اجسادا فحسب نتبادلها بحسن رغبة ، لننفلت من مدى الرتابة اليومية
الجروح الوطنية تنزفنا دُمى ومشردين وضحايا اسعافات ثانوية للحروب ، الجروح غير المرئية التي تتفتق في الروح ، لذلك لم يتسخ فستانك الابيض ، بالبقع الشريرة للنزف
لكنك كنتِ قادرة على الضحك المُعافى ، مثلي تماماً ، مسكونة بأحلام باريسية ، بالأرصفة التي لا تتنكر للأمطار ، بالأصابع التي تدعي العفوية المحضة وهي تصطدم ببعضها ، مسكونة بأضرحة من الشمع ، وبدعوات الجدات غير المشروطة بالزوج الصالح
ما زلت اذكر
وكان الصباح ، الشمعة التي تفضحنا لفصاحة العصافير ولألوانها
وللعيون التي تأكل الاجساد العابرة ، لأن كل ما هو مختلف يُصبح حساء مجففا في موائدهم
هكذا أخبرتني وانتِ تطرقين على الطاولة باصابعك الشفافة ، لا لتلفتِي انتباه القهوة لفوضوية المزاج
بل لترتبي صدرك ، على الانصات ، للرغبات التي تحشد خجلها لليالي مؤجلة
انمضي ؟
نمضي
هكذا قُلت ، وكأن المطر في الخارج ، هو في الخارج جداً ، حد أننا لن نصطدم به
لكننا اصطدمنا به ، دافئاً ، مُشبعاً بالاحتفالات لا لسبب سوى الثمالة المزدوجة فينا ، الثمالة التي خرجت عارية من بين الاصابع
والكيمياء التي احتكرتنا للاحاديث البعيدة عن السطح ، الاحاديث التي تتناول لون بشرتك ، اللكنة ، والجراثيم الغازية ، التي غربتك عن جدتنا السمراء ، وحقل القمح والرقص عرايا ، في موسم هبوط آلهة الزرع
هكذا صمدنا امام المحنة ، وسِرنا متحابين ، لقد كُنت حينها املك ذاكرة بيضاء كضمائر الاطفال ، احشدك بالكامل داخلي ، اُرتبك بما يناسب الاتساع غير المتناهي للحظة
انت وحيث انعدام الانا والأنتِ والتوحد المُطلق في مشهد اغصان
انتِ ، ومحاكاة المُدن في طيشها ، نزرع الاحلام في غير موضعها ونحصدها ايضاً من اتجاهات اُخرى
اكان حُلما؟
أن نسير الى الآن ؟ أن لا نتوقف ابداً ، أن نفترق ولا نتوقف ، أن لا نصل ابداً
ما زلنا نسير، وكلما توقفنا مارست النافذة العابها البهلوانية ، ورمتنا في تخوم الملذات المدخرة لليالي الفقد ، عُدنا ببراءتنا البكر ، لنلهو بأجساد بعضنا ، ونضحك من فكاهة ما اسميناه غيابا
ذلك أن الغياب يعني التوقف
ونحن لا زلنا نسير ، في خارطة لم تُضع بعد ، في جغرافيا تشبهنا في كل شيء ، عدا في الجرح ، تشبه الصافي منا ، الجزء غير النازف
نعود دائماً ، كصحفيين قذرين ، او كرجال اوفياء للموت ، نحو خرائب الذات ، وحيث بقايا الرماد المتبقي من احتراق اصابعنا
نحصي ما التهمته الكارثة ، ثم نشكو للكأس جُبن المواعيد غير الوفية للأقدار
لكننا في النهاية نمضي ، لأن الذاكرة تبقى هناك ، تزرع انتظارها في شتاء الرغبة
لتتفتح في ربيعنا الذي قد يأتي

عزوز




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى