أمل الكردفاني - صورة صامتة.. قصة

"ها نحن في عام خمسمائة بعد التحول، حيث نعاني من عدم المعاناة، فالديدان الخنثى لا تحتاج لشيء. ولذلك قررت أن أكتب تاريخنا بعد أن بدأنا التحول من جنس بشري بدائي إلى جنس الديدان الراقي. إنني دون الديدان الأخرى قررت أن أعود لاستكشاف ذلك العالم البدائي، أي تاريخ أسلافنا البشر البدائيين كي أعرف قيمة التطور الذي بلغناه بعد أن أصبحنا ديداناً راقين. ولكي أفعل ذلك فقد استخدمت وسائل أجدادنا البشر البدائيين من جديد ومنها الكتابة" والتي اخترعوها ليوثقوا بها أنشطتهم وأفكارهم، ثم سأجري مقارنة عامة بين الوضعين. إنني حقاً لا أعرف لمن سأوجه هذا الكتاب، لكنني عموماً سأرسل منه صورة تخاطرية لباقي الديدان حول العالم رغم أنني أعرف بأنهم كُسالى ولا يحبون شيئاً أكثر من النوم. قبل أن أشرع في بحثي هذا؛ لم أكن أعرف أن أسلافنا البشر كانوا يعانون كل هذه المعاناة ليتمكنوا من التواصل عبر اللغة الصوتية والمنقوشة الناقصة، كم هذا مرهق. نحن أحفادهم لم نعد بحاجة لكل هذا التعب إذ أنه يكفي أن نرسل صوراً بكل ما نريد التعبير عنه لآخرين، صوراً كاملة. كيف كان البشر يتواصلون رغم كل تلك الصعوبات التي واجهتهم كما تواجهني الآن..(سأحوّل ما كتبته إلى صور تخاطرية لأنام قليلاً بعد كل هذا المجهود الضخم).
...
الأرض مشعثة كساحرة شمطاء، أدغال ارتفعت أشجارها إلى أعالي السماء، التماسيح تنتشر في البحيرات، والكائنات الحية تكاثرت بشكل لا يطاق. أغلب الحيوانات دسترت علاقاتها في عهد أعظم لكي تحافظ على الدورة البيئية بعد اختفاء الإنسان وتحوله لديدان لا تحتاج لطعام ولا شراب بل ولا حتى للتنفس فهي مكتفية بجسدها تماماً، إذ لا تموت ولا تنجب ولا تفعل شيئاً تقريباً سوى الجنس الذاتي فتركتها باقي الحيوانات في عزلتها فوق أعالي الجبال.
....
صورة (دودة تتحرك داخل ظلمة)
أرسلت الدودة الصورة..فردت عليها الأخرى بصورة (دودة تدور حول نفسها)
أرسلت الأولى صورة (دودة ضاحكة)
فردت الثانية بصورة مماثلة.
أرسلت الأولى صورة (لدودتين تدوران حول نفسيهما)
فأرسلت الثانية صورة (لدودة تهز رأسها موافقة)
وهكذا بدأت الدودتان في اللعب بالدوران البطيئ حول نفسيهما.
...
كان أسلافنا البشر في حالة احتياج دائم، يا لها من حياة قاسية. حتى أنهم كانوا أقل ذكاء من الحيوانات في عصرنا، فهم لم يتمكنوا ابداً من الاتفاق مع بعضهم على الوثوق بدستور يحقق مصالح الجميع بتبادل المنافع بينهم. لقد تمكنت الحيوانات البدائية اليوم من توفيق جميع أوضاعها، إذا لا يحتاج الأسد لصيد الغزلان لأن الغزلان تتنازل عن بعض لحمها للأسود مقابل تركها حية لينمو اللحم من جديد. ولا تحتاج الأعشاب للحماية من الإنقراض بسبب أكل الغزلان لها لأن الغزلان باتت تأكل بنظام الدورات لتتيح للعشب أن ينمو من جديد..كل ذلك موثق في الدستور..فلماذا فشل أجدادنا في دسترة أوضاعهم..يا لهم من بدائيين.
...
تجمعت الحيوانات، وبدأوا في شنق ضبع كسر الدستور..كان الضبع يصيح:
- هذا غير طبيعي ألا تفهمون..إن قانون الغاب لا يمكن أن يتحول لقانون طيب..ألا تفهمون..
صاحت حشود الحيوانات وتدلى جسد الضبع ثم تم تقسيم لحمه عليهم بالتساوي رغم أن نصيب الواحد لم يتعد قلامة ظفر لكنه الدستور.
....

لم أعد أفهم كيف عاش أجدادنا وهم بكل ذلك النقص؟! الحق يقال يجب أن أرسل لهم تحياتي لصبرهم. لن أتحمل أكثر من ذلك. سأرسل صور تخاطرية لباقي الديدان. إنهم لن يشاهدوها فهم مشغولون كالعادة بنكح أنفسهم..لن نتطور أبداً إذا ظلوا كُسالى على هذا النحو وربما نتقهقر لنعود بشراً من جديد.
...
رغم قراري بالتوقف عن تتبع تاريخ اجدادي البشر لكنني سأعود إلى المدينة القديمة حيث آخر معقل لهم على وجه الأرض. سأنتقل تخاطرياً إلى هناك. ها أنا في المدينة القديمة. يا لها من مدينة مقرفة..بقايا خرائب..خرائب بائسة، وما هذه الأشياء؟ إنها لعب أطفالهم.كم كانوا يلعبون ألعاباً سخيفة..ما هذا.. إنه بقايا كتاب قديم..سأحاول فك شفرته اللغوية..
انتقلت إلى خاطره فجأة صورة الكتاب وهو يتمزق، فعلم بوجود دودة في نفس المكان..
- لن تستطيع فهم هذا الكتاب..
قالت الدودة فسأل عن السبب:
- لأنك لن تفهم المجاز...لقد أنفقت سنوات حتى أفهم معنى المجاز..
- هل أنتِ هنا منذ فترة طويلة؟
- منذ عقود..
كان عليه أن يفهم ما تقصده بالمجاز، وليصل إلى ذلك سينفق خمس سنوات من عمره الخالد.
...
- إذاً فنحن نحتاج للنقص لكي نعرف ما هو المجاز..
- نعم.. إن المعنى لم يكن ينتقل إلى البشر كما هو بيننا الآن..لذلك كان المعنى دائماً مفقوداً..كانت اللغة عندهم مجازية في كل الأحوال..
- يا للبؤس..
- على العكس..كان ذلك النقص سبب سعادتهم..
وقالت الدودة بلغة أسلافها:
- دعنا نناقش الأمر..
قال:
- حسنٌ..
....
"أيتها الديدان العجيبة، إنني ادعوكم إلى اتباعي.."..
ألقت الديدان نحوه نظرات حانقة وعادت لتنشغل بالتناكح الذاتي..
"هذه هي سعادتكم الوحيدة، لكنكم لو أدركتم قيمة النقص لما قبلتم بأقل من أن تعودوا بشراً كأسلافكم"..
ضحكت الديدان قليلاً ثم انشغلت بالتناكح الذاتي..
"إنكم لم تجربوا روعة المجاز"
لم يهتم أحد من الديدان حتى بالنظر إليه..
فاختار مكانا تحت صخرة صغيرة ومدد جسده الأسطواني الأحمر وأخذ يفكر في المجاز.
....
"النظام النظام يا حيوانات الغابة، لقد أفلتنا من الإنقراض بسبب النظام، غير أننا اليوم نشهد تغيرات في أجسدانا، القرود بدأت تفقد ذيولها، وكذلك الخنازير، ونحن القوارض أيضاً لاحظنا تغيراً في أجسادنا، يبدو أننا في مرحلة تطور ما، وأخشى ما أخشاه أن يظهر جنس البشر من جديد بيننا..لذلك وجب علينا قتل القردة والخنازير..أليس كذلك؟"..
هاجت القردة وخنخنت الخنازير وهي تقفز بأقدامها النحيلة الجافة.
"ليس عدلاً أن نُقتل قبل أن نتحول إلى بشر"..
صاحت الخنازير واتبعتها القرود:
"وليس عدلاً أن نقتل حتى لو تحولنا إلى بشر ما دمنا لم نقترف جريمة"
قال السنور الذهبي:
"ما هو العدل؟ هناك ما هو أهم منه وهو البقاء؟ بقاء الأغلبية مقابل التضحية بالأقلية، إن التحوط أهم من العدل"
صاحت القردة:
- سندافع عن أنفسنا في كل الأحوال.
وتابعت الخنازير:
- إنكم تشقون صف الحيوانات بعد قرون من السلام الإجتماعي بينها..
وهكذا بدأت الحرب..وتم اجتياح الأرض بالدماء..عادت المفترسات تطارد الغزلان وتطور القرود والخنازير لبشر، وبقت الديدان أعلى الجبل وهي تنكح نفسها..لكنها لم تلحظ تلك التحولات التي بدأت تظهر في جسدها..كانت تذبل لتكون روحاً سديمية..يوماً ما ستكون شيئاً آخر..شيئاً مختلفاً تماماً..وعظيماً جداً..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى