أمل الكردفاني- ابن عائلة بيرغن- مسرحية من مشهد واحد

الشخصيات:
بيرغن الأب
جيمس الابن
ساسيو الخادم

المسرح: صالة إستقبال الضيوف في منزل عائلة بيرغن..مؤسسة أساساً ثرياً..
الزمان الربع الأول من القرن العشرين بإحدى ولايات الجنوب الأمريكي..

يدخل الأب بيرغن ويبدأ في تدخين غليونه وهو جالس في تأمل عميق.
بيرغن في الستين من عمره، ويرتدي ملابس المنزل. وإن كان يبدو عليه الوقار والملاءة المالية.
بيرغن: (يصيح) ساسيو..
يدخل الخادم ساسيو والذي يرتدي ملابس الخدم، وهو أقل قليلاً في العمر من سيده، أسود البشرة وشعره الأبيض مغطىً بقبعة كروية قرمزية، فلا يظهر من شعره إلا القليل قرب أذنيه.
ساسيو: سيدي..
بيرغن: هل عاد السيد جيمس؟
ساسيو: لا أعرف يا سيدي.
بيرغن: بمجرد أن تراه أدعه إلى هنا..
ساسيو: نعم سيدي..
بيرغن: جهز لي المركبة فسأطوف حول المزرعة اليوم..
ساسيو: أمرك سيدي..
(يخرج ساسيو)
بيرغن: (محدثاً نفسه) الابن الوحيد والفاشل في نفس الوقت..كل ثروتي ستضيع هباء..أقوم بكل الاعباء لوحدي..متابعة مناجم الفحم والمزارع وحساباتي في البنوك وإداراتي العقارية..وهو لا بفعل شيئاً سوى إنفاق مالي على بطولاته الوهمية..
(يدخل جيمس، وهو شاب عشريني أنيق يرتدي قبعة عالية اسطوانية الرأس وعلى فوديه يمتد شعر طويل يلتصق بشاربيه ثم يجلس على الأريكة المقابلة لمقعد والده، يخرج ساعة الجيب ويلقي عليها نظرة ثم يعيدها إلى جيبه مرة أخرى)..
جيمس: ساسيو..
(يدخل ساسيو)
جيمس: فنجان قهوة يا زنجي..
ساسيو: بأمرك سيدي..
جيمس: (ينظر لوالده بعمق) نعم سيدي..أخبرني ساسيو بأنك ترغب في رؤيتي..
بيرغن: نعم.. هل تعرف أن الحديث معك يصبح صعباً يوماً بعد آخر..
جيمس: لماذا يا أبي؟
بيرغن: هذا هو السبب.. هذه النظرة الحانقة في عينيك..تلك التي تحدجني بها أثناء الحديث..لقد أضحيت تكره العالم بأسره..
جيمس: إن حديثك هذا هو الذي يصعب الحوار بيننا وليست نظرتي..
بيرغن: بل نظرتك..نظرتك الحقودة تلك ومتابعتك لبعض العصابات العنصرية..سيشنقونك يوماً ما..(تصبح نظرته شفوقة ونبرة صوته مستجدية) وأنا لا أريد ذلك يا جيمس..هل تفهم..لا أريد أن أفقدك..كل هذا الصرح الذي بنيته من أجلك لتنميه لا لتهدره..إنه ميراث أجدادك في هذه الارض الحلم..هل تفهم..جاءوا إلى هنا ونحتوا الصخر بأيديهم .. هل تعتقد أن أمريكا كانت حلماً..لا..لقد كانت كابوساً مرعباً لكل من لا يملك الإرادة الكافية..كانت انتخاباً للأقوى..كالانتخاب الطبيعي بالضبط.. هل تفهم..وأنت الآن وكوريث وحيد تُضيِّع كل ميراث أجدادك الذي كادوا ان يفقدوه عقب الحرب..لقد كانوا أذكياء بما فيه الكفاية ليتمكنوا من البقاء أحياء في لعبة الوحوش..هل تفهم ما أقول؟..
جيمس: وأنا ك...
بيرغن: لا تقاطعني أرجوك..لا تقاطعني (يشعل غليونه ويدخن عدة انفاس متقطعة حتى يتأكد من اشتعال التبغ) وأنت ماذا تفعل..تبيت عند روزماري وبناتها المومسات.. تخرج صباحاً وتلتقي بعصابتك ثم تحرقوا ممتلكات السود أو تجلدوا بعض أولادهم بعد أن تعروهم..وأنتم ترتدون الأقنعة المرعبة..
جيمس: (بجزع) أتراقبني؟
بيرغن: العالم كله يعرف.. لكنني أحميك بنفوذي.. هل تعتقد أنه كان بإمكانك أن تظل حياً لو كان ظهرك مكشوفاً..
جيمس: (يبدو القلق على ملامحه)..لابد من وقف هذه الكارثة يا أبي..أنا لا أعرف من يدير هذه الأرض ويريد أن ينتزع عنها حقيقتها.. إن أمريكا تنهار..تنهار..
بيرغن: هذه أحاديث فارغة..لن تعود العبودية من جديد..
جيمس: هناك قوة تعمل على ذلك..
بيرغن: هل هي قوة طيبة..
جيمس: بل قوة شريرة يا أبي وأنت تعرف أن جل همها هو أن تنهي قوة طبقتنا الارستقراطية بانتزاعها لعبيدنا وتحويل حقولنا إلى زراعة تجارية..ليست طيبة..حينما تعمل من أجل مساواتنا بالزنوج وتلويث دمائنا النقية..
بيرغن: أنت مندفع أكثر مما يجب..مندفع وراء مفاهيم مغلوطة.. لن نتساوى بالسود أبداً حتى ولو حكمنا رئيس أسود بعد مائة عام..هل فهمت..إن أمريكا نهضت بالنظام وليس بالفوضى..وكل شيء مدروس وممنهج وبإحصائيات دقيقة..حسابات لن يفهمها عقلك العصفوري هذا أبداً..
جيمس: أبي..
بيرغن: لا تقاطعني..منذ الآن ستتوقف عن إثارة الفوضى..منذ الآن ستتوقف عن حث البيض على سن قانون القطرة الواحدة..إنك تعرض نفسك للخطر..وكما قلت أنت نفسك..هناك قوة شريرة تدير هذا البلد..ولكنها ليست كما تحسب..فهي تعرف مصالحنا جيداً..
جيمس: إن كانت أمريكا هي منارة الحرية فلن تحدد لي خياراتي في الحياة.. وإذا كانت الثروة هي الرابط بيننا فإنني لا أريدها..(يهم بالنهوض)..
بيرغن: (يأمره بقوة) إجلس..
(يجلس جيمس)..
بيرغن: (بصوت خفيض) إجلس..ولنتحدث بوضوح..
(يجلس جيمس ثم يخرج منديلا من جيب الجاكيت ويمسح جبينه)..
بيرغن: قبل أسابيع فقط التقيت ببعض العائلات الكبرى .. هنا في ولايات الجنوب..ولقد قررنا.. أو فلنقل بأن تلك القوى التي تحدثت عنها أنت هي التي تدفع باتجاه سن ذلك القانون..إن الجنوب سيظل يتعرض للحرب باستمرار..
جيمس: (يخرج علبة النشوق الفضية ويحشر منها قليلاً بين لثته وشفته السفلى).
بيرغن: "والتر بيكر" هو ذراعهم في تمرير تلك القوانين..وسيتم تمريها ليس في ولايات أمريكا وحدها بل سيتم نقلها إلى الدول الأوروبية..وبسببها سيبدأ صراع عظيم..ينتهي بوفاة العهد القديم وبداية العهد الجديد..
جيمس: لم أفهم شيئاً..
بيرغن: قد لا تفهم شيئاً لكننا لن نسمح بانتقال العدوى لنا من فرجينيا..
جيمس: أنت فقط ترفض اللعب النظيف..
بيرغن: ليس نظيفاً..إنه متسخ جداً.. إنهم يريدون تدمير العائلات الكبرى..
جيمس: أبي.. إن حديثك المفكك هذا لا يعني لي شيئا.. سأناضل حتى آخر قطرة من دمي القوقازي..
بيرغن: دمك ليس قوقازياً..(يتراجع على مسنده مغمضاً عينيه)..
جيمس: ماذا تقول؟
بيرغن: (يغمض عينيه) نعم..دمك ليس قوقازياً يا بُني..وهذا ما يريدون كشفه للعالم كأحد أسلحتهم لبناء المنظومة الجديدة..
جيمس: أنت تكذب..تكذب..
بيرغن: لست مضطراً لتصديقي الآن ولكن لو تم سن هذا القانون وتطبيقه فسوف تشعر بالخزي حقاً..ليس لأن ساسيو الزنجي هو عمك ولكن لأن تاريخ نشاطك ضد الزنج سيسخر منك..
(يتجمد جيمس في مكانه، وتبدو نظراته ذاهلة)..
بيرغن: إنهم يعقمون الأطفال السود والخلاسيين والهنود..هل تعرف ماذا يعني هذا..يعني هذا أن ابنك قد يتعرض لذلك أيضاً..والأخطر من ذلك أنهم حين يقومون بإلغاء هذا القانون بعد شيطنتهم لدعاته الآن وانت منهم بالتأكيد فسيمتلكون المبرر الكافي لشنقك أنت والآخرين..
جيمس: ساسيو هو عمي..
بيرغن: لا توجد عائلة بيضاء نقية واحدة..هل كنت تتصور غير ذلك..هذا الوهم المسمى بالنقاء العرقي.. عشرات الآلاف من السنين منذ ظهور الإنسان العاقل قد مضت وتداخلت فيها الالوان والأعراق، فهل تعتقد أنه بعد كل هذا سيكون هناك عرق نقي في هذا العالم..إنهم يستخدمونكم يا بني لا أكثر ولا أقل..هم يستخدمونكم للتشهير بنا عبر استثناء يشابه استثناء بوكاهونتاس.
جيمس: (يقفز من مقعده وهو يصيح باكياً) سأقتل نفسي..سأقتل نفسي..
(يهروج خارجاً ومن ورائه بيرغن)
بيرغن: توقف..لا تفعل ذلك.. هذه ليست نهاية العالم..ليست نهاية العالم..
(يدخل ساسيو حاملاً طقم الشاي أثناء خروج بيرغن)..
(يظل واقفاً وسط الصالة وهو يحمل الصينية الذهبية ويبدو متأملاً)..
ساسيو: نعم..إنها ليست نهاية العالم.. ولكنها بدايته..إنها بداية العالم....
(يدير ظهره ويخرج بما يحمله)

(ستار)..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى