فتحي عثمان - كرذاذ عطر قديم

إهداء: "إلى إيزابيل الليندي في بيتها العتيق وهي تراود الكلمات عن نفسها" ماريو. ف


عندما تخرج "ط" إلى العمل تمر بكل البيوت في شارعها الضيق. صباحا وفي كل مساء وعند مرورها الخفيف يهيل عليها الجيران تراب الظنون؛ ويسفرون في وجهها خناجر تساؤلاتهم الجارحة. رغم أنها تحس بنصال عيونهم تنهش حواف معطفها، إلا أنها لا تشعر به خفيفا أبدا، لأنها تظن أنه يثقل كل يوم تحت ركام ظنوهم المتجددة.
كعادتها كل مساء، تتناول وجبتها الباردة، وتطعم قطتها الوحيدة وتسقي نبته الصبار اليتيمة، ثم تروح إلى سريرها وإلى جانبها كتابها الوحيد أشعار فيرجيل.
قطتها "مكافيتي" تنظر إليها في الظلام بعيون لامعة، وهي تمارس طقسها المسائي قبل أن تسلم نفسها إلى نوم معذب تعارك فيه أحلامها ذكرياتها في ميادين تسورها الأشواك.
تنظر القطة إليها وهي تسحب الغطاء على جسمها النحيل، ثم تتناول زجاجة عطر بيد منسلة من تحت الغطاء الذي تجره ليغطي رأسها رغم حرارة الجو التي تذكرها بحرارة المدن الساحلية ورطوبتها اللزجة.
تنشر رذاذ العطر فوق الغطاء أولا، ثم تعطر صدرها الذي يغطيه العرق، ثم تبدأ في التنفس العميق: شهيق... زفير.. شهيق.. زفير.
تشاهد القطة الغطاء وهو يرتفع وينخفض مع التنفس، وهي تعودت على ذلك المنظر كل مساء، ولا تخاف المنظر كما خافته المرة الأولى عندما ظنت بأنه سيدتها تحتضر. وفي حركة مألوفة ترفع السيدة الغطاء عن رأسها وتريحه على صدرها، وتنظر إلى السقف وتتنفس بهدوء هربا من إغماء وشيك. ثم تحسب الغطاء عليها مرة أخرى: هذه المرة تتنفس بهدوء حتى لتظن قطتها أن سيدتها أرسلت أنفاسها الأخيرة إلى السماء.
ثم تنخرط السيدة في بكاء وأنين، تجاريه القطة بمواء حزين.
زفيرها المولود من الماء والمدخن برائحة تبغ حبيبها ورائحة العرق والعطر النادر كانت أدواتها السحرية لاستحضار أنفاس حبيبها المغيب.
بهذا الطقس والذي يحضره قط اليف في معبدها الوحيد كانت تستدعي روح وأنفاس حبيبها عبر زجاجة عطر برتقالية اللون مشوب بحمرة كلون ذلك الأصيل الذي أخبروها فيه بأنه اختفى.
تضم زجاجة العطر إلى صدرها، هذه الزجاجة شبه النادرة التي عانت للعثور عليها في حوانيت المستحضرات الرجالية، وكابدت اليأس كم مرة وهي تسمع كلمات الباعة الزلقة وهم يقولون لها بأن الشركات لم تعد تنتج هذا العطر. ثم يحاولون بيعها عطرا آخر مذكرين إياها بأن "اذواق الرجال تتغير، تماما، مثل طباعهم، وأنه لا فائدة من مطاردة القديم."
القديم، تكرر الكلمة وتسأل نفسها: "هل حبيبي قديم؟" تبتسم عندما ترجح أنه لو كان موجودا لما غير عطره القديم. وبخبرتها في الكيمياء وبسبب تشرب روحها لطقس المساء عرفت بأن العطر مركب من الهيل وعود الصندل والبرغموت واللافندر وزهرة البرتقال، حاولت ذات مرة تركيبه في البيت لتتحاشي وجع الرجال وحذلقة الباعة، ولكن ندرة مكونات العطر في مدينتها جعلتها تظن أنها ستغرق في طقس تعبدي قديم، مما يؤكد ظنون جيرانها السحرية عنها.
مزيج أنفاسها المضمخة بالتبغ والعطر والعرق المتعب كانت تحي لها رائحة حبيبها. كانت تعرف ومع قدر كبير من الإنكار العنيد بأنهم سوف يقتلونه ذات يوم، لكن معرفتها المنكرة لم تكن بقدر مكرهم ودهائهم. كانت تظن، وتتمنى أحيانا، أن يقتلوه حتى يتركوا لها شاهدة قبر يتيم يمكن أن تغسلها بماء روحها صباح كل أحد حزين. أن يقتلوه يعني أن يمنحوها في بقايا كرم لئيم دقائق من الكلمات توجهها نحو الأرض لتخبره قائلة: "هل تعلم أن ابنتنا نطقت اليوم كلمة بابا."
لكنهم كانوا أشرارا حتى النهاية؛ فلم يمنحوها مترا واحد من الأرض تحكي له فيه قصتها وملاحقة الظنون.
لقد اخفوه كرذاذ عطر تبدد في فضاء بعيد.

فتحي عثمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى