أمل الكردفاني- المشهد الثاني من الفصل الثالث من مسرحية "قديسة البرابرة"

المشهد الثاني من الفصل الثالث من مسرحية "قديسة البرابرة"

أمل الكردفاني


المشهد الثاني

المسرح:
حديقة القصر، على الجانب الأيمن من المسرح تتكئ ثيودورا على أريكة حجرية أمام نافورة صغيرة وتتأملها..تجلس تحتها فرحاً وهي تنسج خيوط الصوف.. ومن على الجانب الأيسر يقف فلافيوس وذراعه اليسرى حول خصره وذراعه اليمنى ترتفق على الأخرى وتقف بحيث يضع سبابته بين أسنانه متأملا ثيودورا التي لا تشاهده بل تستغرق في تأمل النافورة..
جوستنيان: (يهمهم) ليس علينا أن نتبول حول حمى الحبيبات لنحدد لباقي الذكور حدود سيادتنا العاطفية... إن هذا ما يرهق الرجل كثيراً...وتستغله المرأة كثيراً أيضاً.. ولكن هذا الأمر يلقي بظلال الشك حول تحررية عقل الرجال المفتعلة والزائفة، إن داخل قلب كل رجل كنيسة وكنيس ومعبد..لا تُعبد فيه الآلهة بل تُعبد فيه الذات...والمرأة هي التي تزيد عبادة الرجل لذاته وتحفزه على حمل السيف دفاعا عن ربه...وما هو الزواج غير أننا نستبدل بول الأسود بعهد الكنيسة...كم هي محيرة تلك الأثرة التي لا يقنِّعها الإيثار مهما زعم البشر...ولكن إن كانت هذه طبيعة تمتزج بعظامنا ولحمنا ودمائنا..أليس من حقنا على أنفسنا أن نعترف بها...(يرفع صوته) أليس كذلك يا ثيودورا...
ثيودورا: (ترفع رأسها) فلافيوس..
جوستنيان: بلى..هو فلافيوس...(يظل واقفاً بذات وقفته)..
ثيودورا: لماذا تقف هناك؟..
جوستنيان: لأنني خائف..
ثيودورا: ممَّ أنت خائف؟
جوستنيان: منك..
ثيودورا: مني أنا؟
جوستنيان: بلى..
ثيودورا: (تصمت وتتأمله لبرهة) لستُ امرأة يا فلافيوس لكي تخاف مني..
جوستنيان: من أنتِ إذاً؟..
ثيودورا: شيء ما يا فلافيوس..شيء ما...
جوستنيان: (يتأملها دون أن تتغير وقفته) (يهمس) شيء ما...(يقترب نحوها بخطوات بطيئة ويقف على بعد مترين منها وهو يستمر في تأملها)..شيء ما... يعني شيئاً ما...ذلك الذي ينوجد في الكون بلا جوهر ولا ماهية...(يتحرك نحوها ثم يجثوا ويمسك يديها) (يهمس) كم أنتِ صادقة..
ثيودورا: (تنظر لعينيه باضطراب)حقاً؟
جوستنيان: حقاً...(يلقي نظرة قاسية على فرحا التي كانت تراقبهما بدهشة، فتفر هاربة)...إن المرأة تشعر بالرجل ولا تفهمه..لكنك تفهمينني ولا تشعرين...
ثيودورا: وهذا هو سبب حبك لي...لأنني شيء..ولست امرأة...
جوستنيان: (يهمس وعيناه تتسعان) عندما أنظر إليك..أرى عقلي داخل عقلك..فأراك من الداخل...وترينني من الداخل...إنك ترينني عصفوراً ملوناً رقيقاً...
ثيودورا: وأنتَ تراني عُشاً سميك النسج...آمنا...ودافئاً..
جوستنيان: وحينما يعترف الرجل بأنه عصفور...فهو يلقي أسلحته تحت قدميه...
ثيودورا: ليعود إلى فطرته كشيء حي..حيٌّ في الزمان والمكان..
جوستنيان: ولكنه أعزل وخائف...
ثيودورا: (تضع كفيها على خديه وتهمس) لا تخف...
(يظلا صامتين لبرهة وهما ينظران لبعضهما)
جوستنيان: تم تعديل القانون لنتزوج...
ثيودورا: (تظل يداها على خدي جوستنيان) لن نتزوج...
جوستنيان: سنتزوج كما اشترطتِ من قبل...
ثيودورا: (تهمس) وهل نسمي ذلك زواجاً؟
جوستنيان: وهل التسميات تغير من الواقع شيئاً...
ثيودورا: وهل ستتحمل ذلك الواقع؟
جوستنيان: وهل أملك واقعاً غيره؟
ثيودورا: ومن منا يملك غير واقعه؟
جوستنيان: لا أحد يا ثيودورا..لا أحد..حتى الرب نفسه...(ينهض وينظر للسماء) بحق المسيح..بحق المسيح..امنحني قدرة الصمود في هذا العالم...فليكن حبي ميلاد وجودي..فأحيا كما يجب أن أحيا...
ثيودورا: (تمسك كفه وتضع خدها الأيسر عليه ثم تغمض عينيها) سوف تحيا كما يجب أن تحيا يا فلافيوس...
جوستنيان: وكيف ذا؟
ثيودورا: لأنك لن تعرف ما يجب حتى موتك...لذلك فلتحيا كما تمليه عليك انحرافات الوقائع...هكذا يا فلافيوس..
جوستنيان: اي لا معني تطلقيني في عمائه يا ثيودورا...وهل هكذا يحيا الرجال...
ثيودورا: بل هكذا يحيا الناس ولو ظنوا غير ذلك... إن روحنا وحدها التي تومض في خط مستقيم لأنها من الزمن...لكن ما يحيط بهذه الروح جسد وما يحيط بهذا الجسد كون مضطرب..كَسَيْرِ بائعي الملح الفقراء بحميرهم فوق الأراضي الجبلية الوعرة...وهم لا يحملون سوى الملح...
جوستنيان: إنه البؤس..ولكم فكرت في اعتناق الرهبنة مذهباً لي..ولولا أن التقيت بك يا حبيبتي لما ترددت في ذلك...ولكن..ولكنك ظهرتِ لي فجأة..فجأة هكذا بلا إنذار ومنحتني بصيصَ أمل...أو بصيص وهم...أيهما أَصْدَق؟ لا أدري...(يجثو على ركبتيه ويمسك برأس ثيودورا مقربا وجهه من وجهها ونظرات قاسية مجنونة تبدو من عينيه يسلطها على عينيها) من أنتِ؟.. شيطان أم قديسة؟
ثيودورا: انا لا شيء..لا شيء يا فلافيوس...ولكنك لا تفهم...أنت الذي ستكون كل شيء لأنك أكثر نقاءً من سائر البشر...أصدق منهم جميعاً... وإذا كانوا معجونين بالنفاق والكذب..فليس عليهم إلا أن يخضعوا لقوة صدقك ونقائك...على الخير أن ينتصر ولو مرة واحدة بعد كل هزائمه المتتالية منذ فجر التاريخ...
جوستنيان: (يضع جبهته على جبهتها ويغمض عينيه عاضاً على شفتيه) آه يا ثيودورا...أحقيقة أنتِ..فليس هناك أكثر حظاً من رجل مهزوم مثلي حين تكلله امرأة بتاج قلبها وتعترف به ملكاً...(يفتح عينيه) سوف تباركينني..(يقف ويخرج سيفه من غمده) قفي أيتها القديسة...(تقف..فيسلمها السيف ثم يجثو على ركبته اليمنى) فلتباركينني..
ثيودورا: (تغطي فمها بيدها اليسرى وعيناها تترقرقان بالدمع، ثم تربت بطرف السيف على كتفي فلافيوس وتغمغم وسط بكائها) فليباركك الرب...

(ستار)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى