عمر علي الجقومي - شهوة وذاكرتي والروح..!!

كعادتي كل يوم أطفئُ أنوار غُرفتي وأضع رأسي علىٰ وسادتي لأخلد للنوم، قبل أن تجتاحني ذكريات مُوغلة في الحُزن.

صعدتُ الحافلة بتؤدة وجلستُ وحيدًا إلّا من لحظة يتيمة تتكرر أمامي دومًا. وجهكِ العجائبي، ذاك وجه لم أرَ مثله وأحسب أنني لن أراه أيضًا مرة قادمة! ولِأوَّل مرة أعجزُ عن رسم خريطة ذاكرتي، وجدتني غارقا في تفاصيلها المتشعبة، خداكِ المتوردان وعيناكِ الآخذتان ولطفكِ البالغ، لطفك الذي لمستهُ في وجهكِ أولِ القبلة ومنتهىٰ السفر الطويل، لا/لن أستحضره، عاجزٌ عن إرشاد ذَّاكرة مُشوشة، بدت لي خاطفةً كالخائف يصفِ مكانًا مر به وهو يُسرع نحوِ النجاة أو ربما عطبت في لحظة ما، لم تعد تذكرُ/تكملُ الصورة علىٰ وجه الدِّقة.

آآه.

أوقفت اِستغراقي مذُ أن تذكرتُ ما حدث حين عدَّتُ من تلكِ الرحلة، حين قلت لي: لو كنت أعلمُ كيف للمرء أن يترك روحه في مكان يكرهه، وعمرًا مجهولًا في عنق الزمان لتركتُ روحي عندك!

رغم أن روحها شفافة وأنيقة إلّا أن مزاجها متقلِّب وتحبُ أكل الشوكولاتة ولمس يديَّ دون التعثر بشيء سِواها.

منذُ ساعتين أتأمل سقف غُرفتي وأطارد ذكرياتي معها هي علىٰ وجه الخصوص، أطالع في نفس الوقت ثمة ضوءًا خافتًا دائمًا، في المكانِ/الزمانِ ذاته، ينفذُ عبر نافذتي هُنا في الطابق الثالث صادرًا من المبنىٰ المجاور، الَّذي تفصلني عنهُ ثلاثة أمتارٍ أركنُ فيها سيارتي في الأسفل.

ظل الضوء نفسه يتكرر، سرقتُ النظر نحو مصدره. كانت تُكومُ نفسها علىٰ منضدة صغيرة، شعرها منتشر بفوضىٰ غير مرتبة، أسود وكثيف ولامع، ينتهي بدوائر صغيرة جدًا أضفت عليه جمالية مقصودة، عندما تقتربُ أكثر من المنضدة يظهرُ جيدها كهالة بيضاء، نورٌ علىٰ نور، تتوسطهُ قلادة ذهبية معقودٌة بصدفة فضية تتوسطها ياقوتة خضراء لامعة يبدو هذا المنظر عجائبيًا لكنه لا يتكرر كثيرًا! كانت تقرأ.. تقرأ باِستمرارِ في المكان/الزمان نفسه وكُنت أنا أعتاد على المنظر نفسه أيضًا.

حكايتي مع هذا المشهد طويلة لكنها ليست مملة إذ أنه في الغالب أرىٰ شيئًا مختلفًا، مثلًا حينما اِستيقظتُ باكرًا مثلها، ورأيتها تتزين كي تخرج، بينما تقترب من المرآة كُنت أنا تسمرتُ عندِ النافذة كحارس السُلطان.

كانت تفرطُ فِي المُقابل في كِل شيء، جمالها، اِبتسامتها، نظم شعرها، اِستدارة نونها الآخاذة، تقوُس حاجبيها، وترطيبُ شفتيها المكتنزتين ثم تبتسمُ لتسحرني مجددًا. تعودُ لتعقدُ قِلادتها الذهبية ذاتِ الصدفة الفضية ثم تبدو فاتنة، فاتنة جدًا حينما تتركُ شعرها مجدولًا وتترك المرآة وتبدو قاسية في فتنتها وهي تتركني أتأمل بياض ساقيها بطبيعتهما قبل أن توصد الباب عني ليحول بيننا، أجدني أتحول للنافذة الأخرىٰ فأراها وهي تغادر منزلهم نحوِ وجهتها، بشكلها الملائكي.

لم تكُن شهوة إلّا ابنة جميلة بارة بأمها سارة وعطوفة علىٰ أختها نشوة وتحبُ قراءة الكُتب والروايات كما تحبُ عملها، لم يكن هنالك من أمرٍ غير الصدفة أن يُسكنا في هذا البيت وفي هذا المكان بالتحديد، الشقة المجاورة لشقتي، ولم يكن بين غرفتينا - أنا وشهوة - سوىٰ ثلاثة أمتار وحائطين ممتلئينِ بالجُبن ونافذتين كريمتين وهما اللتان تمنحاني كُل هذا الأمل. كانت أمي تحدثني عن الأسرة الجديدة وتأكُل رغبتي المُستفزة في الاستماع، كانت تتحدث وعينيها تحكيان فضيحتي التي تسبقني، كنت أستمعُ وأسأل عن كلِ شيء. أي روايات تقرأ؟ أي لونٍ تُفضله؟ هل تسمعُ الموسيقىٰ؟ هل يروقها القمر والشتاء وتحب المطر؟ ماذا تحبُ وماذا تكره؟ أي لون جوارب تفضله؟ كُنت أغرقها بالأسئلة وكانت تبددُ بلاهتي بالأجوبة. بينما كُنت غير معنيّ بكل ما يحدث الآن، تشغلني الذاكرة، الذاكرة حية علىٰ الدَّوام، حية بشهوة فقط.

كم وددت ثقب النافذة كي أسترقُ سماع صوتها وهي تقرأ، كي أخلدُ فيه بإنصات كامل، أحفظه لأطرد به خلواتها، كم وددت إِخبارها أنني كاتب أكتبُ عنها، عن ما تحبُ وتكره، أكتبها هي فقط، أنثىٰ الكون وخاتمة الحياة، محورِ الزمان وعمق التاريخ، كم وددت أن تقرأني بين سطوري، تتلمس أوجاعي المثخنة بالغياب وتشبعها بالحضور، تضعُ حدًا لأمنياتي الطويلة وتحيلها لواقعٍ جميل، تُنهي مسيرة عذاباتي وتضمدُ كل الجروح، تجدني أتعثرُ بها بين ثنيات السطور ولفائف الورق، تشتمُ هواجسي وهي تختلجُ بمخاوفها.

كم هي عصية على النسيان وهي بكل هذا الحضور الصاخب، بلياليه الجميلة وصباحاته الباسمة، بها وحدها. أولِ العشق ونهاية الأمنيات.

الشيء الوحيد الذي يؤرقني وأنا أتأملُ هذا الوميض هو أنني أرىٰ وجهها بذاكرة متأرجحة بينما أرىٰ شهوة بذاكرة حية في كُل ثناياه.

يؤسفني أن أبقىٰ رهن اِحتمال الذاكرة، لأنني في بلادٍ تنظرُ لحكايتي بتفاهةٍ كبيرة.

يؤسفني أيضًا أن أبقىٰ رهن هذا التَّشاد، كل ذاكرة تشُدُّ الأخرىٰ.

ما توقعت قط أن الروح يمكن أن تترك في مكانيين وزمانيين مختلفين.

لا يُمكن للذَّاكرة أن تعيش بلا روح ولا الروح بلا ذَّاكرة وهذا التَّشاد قاتل.

كم تمنيت أن تطفئُ شهوة مِصباحها ليختفي الوميض لأُغالب ذاكرة أخرىٰ عصية عن التوقف أو أن أغلقُ عيني كي أنهىٰ ذاكرة متأرجحة أو حدثًا حيًا موازيًا علىٰ بُعد ثلاثة أمتار.

ما أخافهُ هو أن يحدث ما لا يحدث أبدًا.


عمر علي الجقومي.
25 Jan 2021



* النص الفائز بالمسابقة الأدبية السنوية للشباب دورة البروفيسور فرانسيس دينق، فئة القصة القصيرة،2021م. المنظمة من قبل دار ويلوز هاوس للنشر والتوزيع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى