فاطمة مندي - الشَّبَح..

طَرِيقُ الْقَرْيَةِ عَبَاءَة شَدِيدَةُ السَّوَادِ ، مِنْ تَحْتِ جَنَاحَيْهِ يَسْرُب اللَّيْل عويلاً مَا زَالَ مُبْهَمًا للقاصي وَالدَّانِي .
صَرَخَات تَخْتَرِق إذْن اللَّيْل ، تتناهي إلَيّ الوافدين إلَيّ الْقَرْيَة ، خبراً مَازَال مُبْهَمًا ،
تأوهات بأشتعال الْأَلَم ، فِي صُدُورِ الْأَهْل .
تَلَقَّت الْقَرْيَة خَبَرُ وَفَاةِ أَحَدِ أبنائها تَحْت عجلات القِطَار ، بِمَزِيد مِن الاسي ، عَلَى فِقْدَانُه ؛ فَمَازَال عَرِيس بِضْعَة أَشْهُر ، كَانَ الْأَصْغَرُ بَيْنَ سَبْعَةٍ إِشْقاء
اِتّشَحَت الْقَرْيَةِ كُلّهَا بِعَبَاءَة الْحُزْنَ عَلَى فَقَيَّدَهَا ، غَادِر الرِّجَال إلَيّ مَكانِ الحادِثِ لأستلام الرُّفَات .
اِتّشَحَت النِّسْوَة بِالسَّوَاد ، وأفترشن الطَّرِيقِ فِي انْتِظَارِهِ .
فِي الْمُسْتَشْفَى تَسَلَّم الْأَشِقَّاء هاتفه حافِظَةِ نُقودِهِ وَثِيَابِه ؛ الَّتِي طرزتها عجلات القِطَار بثقوب مُسْتَطيلَةٌ .
تَخْرُج تأوهات مُدَوِّيَة مِنْ الْأُخْوَةِ عَلَى فقدانهم صَغِيرَهُم ، الَّذِي سَافَرَ كَي يَحْضُر أَخْشَاب يَقُوم بتصنيعها فِي وَرَشَّتْه الصَّغِيرَة .
وتمتليء طُرُقَات الْمُسْتَشْفَى بحشود مُتَظَاهِرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلْدَةِ ؛ كَي تُسْرِع إدَارَة المستشفي بِإِنْهَاء الإجْرَاءات الروتينية لِتَصْرِيح الدَّفْن .
وتتسرب الشَّجَاعَة والصمود مِنْ أَبْدَانِ الْإِخْوَة ، وتخور قُوَى صمودهم ، إمَام فاجِعَة الْحَدَث ؛
ألماً عَلَى فقيدهم ، وتهرول مَجْمُوعِهِ مِنْ الرِّجَالِ نَحْو الْأَطِبَّاء كَي يرحموا الفَقيد ويتعجلوا بِإِنْهَاء تَصْرِيحٌ الدَّفْن .
قُبَيْلَ الْفَجْرِ ، تُسْتَقْبَل القريقة الرفاة بِمَصَابِيح كَأَنَّهَا تُسْتَقْبَل عرساً ، تتقدمه الْمَصَابِيح ،
وتروض خُطُوَات الرِّجَال إمَامِه ظلاً طَوِيلًا ً ، ترسمه أَشِعَّة مبهرة ترسمها مصابيحهم فِي عَتَمَة اللَّيْل ،
تَبَعْثُرٌ خطواتهم هُدُوء كَان يغشي الْمَكَان .
تَقَفَّز النِّسَاءُ مِنْ ثَبَات عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْمَوْكِب ، وتتعالى الصرخات تشج قَلْب السُّكُون الرَّصِين .
تُعَفَّر الأَخَوَات وُجُوهِهَا فِى الثَّرَى ، وتنشب الْأُمّ راحتيها فِي الثَّرَى وَتَضَعَه فَوْقَ رَأْسِهَا .
الثَّرَى لَوْث الثيابَ والوجوهَ السَّوْدَاء .
اقتربا مِن عينِ القبرِ الْمَطْلُوبَة ، وَقَف الجميعُ انْزِلُوا الجُثمانَ مِنْ فَوْقِ الْأَكْتَاف ، رَفْعًا الْخَشَبَة ، أهلُ الفقيدِ يَحْمِلُونَه ببكاءٍ شديدٍ ، بكاءُالفراقِ الْحَقِيقِيّ ، نُواحٌ تَرْتَعِش مِنْه الأبدانُ ، عباراتٌ تَهْتَزّ لَهَا الأفئدةُ ، صرخاتٌ كستِ المقابرَ بِالصَّمْت ، صمتٌ جَعَل كلَّ الأذهانِ تتذكرُ لحظةَ دخولِ الْقَبْر ، كلُّ الأذهانِ حركَ مشاعرُهَا النواحُ ، وَضَعَاه فِي القبرِ ، دُعُوا لَهُ ، فِي المدافن تَرْقُد جُثَّة الْفَتَى الصَّغِير فِى مَثْوَاه الْأَخِير ، وَسَط حُشُودٌ مِنْ كُلِّ أَهْلِ الْبَلْدَةِ الصَّغِيرَة ، تشيعها الدُّمُوع الْمُحْرِقَة ، وبقلوب حَزِينَةٌ وَصُدُور أَنْهَكَهَا االخبر وَنُفُوس مَزَّقَهَا الْأَلَم ، انْصَرَفَت كلُّ الأذهانِ بِمَا كَانَ فِي ذهنها ،
ذَهَبَ بَعْضُ الْمُشَيِّعِين جِنَازَة الصَّبِيُّ إلَى مَنَازِلِهِمْ ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ ذَهَبَ مَعَ أَهْلِ الْفَتِيّ لمساندتهم .
جَلَس الْجَمِيع إمَام الْمُنَزَّلُ عَلَى الْمَقَاعِدِ وأفترشت النِّسْوَة الْحَصِيرُ فِي بتحة الْمَنْزِلِ فِي حُزْنٍ وَأَسى وعويل ؛ مازل يُنْسَج عِبَارَات الْفِرَاق .
وَعَلِيٌّ غَيْر تَوَقَّع تَنَاهَى إلَيّ اّذان أَهْلِ الْقَرْيَةِ صَوْت اِسْتِغاثَةٌ ، رَأَى الرِّجَالِ مِنْ بَعِيدٍ أَكْثَرَ مِنْ رَجُلٍ مهرولين قبالتهم ، مُعَلِّلِين أَن شَبَح الْقَتِيل يُهَرْوِل عَلِيّ قَارِعَةِ الطَّرِيقِ .
بَعْدَ بُرْهَةٍ مِنْ الْوَقْتِ شَاهِدٌ الرِّجَال خَيَالا تنسجه عَتَمَة اللَّيْل عَلِيّ جُدْرَان الْمَنَازِل وَيَفْتَرِش الطُّرُقَات ، وَصَرِير الرِّيَاح يُحْمَل الثَّرَى لِأَعْلَى وَيُرْسَم بِه نوات أُفُقِيَّة ودومات تَحْمِل مَعَهَا كُلَّ مَا هُوَ فِي الطَّرِيقِ . ظَهَرَ لَهُمْ خَيَالٌ شَبَح الضَّحِيَّة مِنْ بَعِيدٍ يُرَوِّض خَطَوَاتِه وَكَأَنَّه طِفْل مازل يَتَعَلَّم خطواطه الْأُولَى ، ظِلّ الْخَيَال يَقْتَرِب إلَى أَنْ ظَهَرَ الشَّبَح ، وَكَان مُدْرَجٌ فِي دِمَائِه اِقْتَرَب مِنْهُم رُوَيْدًا ، وَقَف الْجَمِيعِ مِنْ ثباتهم وهرول كلاً إلَى مَنْزِلِهِ .
هَرْوَل الْإِخْوَة عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ، كَمَا هَرْوَلَت جَمِيع النِّسْوَة ، خَرَج وَالِدَاه عَلَى عَجَّل لمشاهدته حَتَّى وَلَوْ كَانَ شَبَح .
بَدَأ الظِّلِّ مِنْ بَعِيدٍ يُغْزَل سَجَّادَة الطريق،
الطَّرِيق وتتصاعد مَع إقترابه أَنْفَاسِهِمَا الاهثة
اِقْتَرَب الشَّبَح مِنْ وَالِدِهِ دُونَ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ .
قَالَت الْأُمّ : كَيْفَ حَالُك يَا بُنَيَّ لَقَدْ فطرت قَلْبِي عَلَيْك واهلت مَدَامِعُهَا بِسَخَاء وَأَرَادَت عناقه ، مَنْعُهَا الْأَب
مُعَقِّبًا فِي هَمَس : تحدثي إلَيْهِ عَنْ بُعْدٍ .
جَلَس الِابْن بَاكِيًا :
لَقَد قابلنى فِي طَرِيقِ عودتي أُنَاسٌ كَثِيرَةٌ وَعِنْد أقترابي مِنْهُم يَهْرُبُون مِنِّي لِمَاذَا ؟ ! حَتَّي قَابَلَت صَدِيقٌ لِي عِنْدَمَا رَآنِي فَرّ مسرعاً لِمَاذَا ؟ !
وَالْآن تَمْنَع أمى مِن عناقي يَا أَبِى لِمَاذَا ؟ !
أخواتي يَهْرُبُون لِمَاذَا ؟ ! وَأَيْن زَوْجَتِي ؟ أَلَمْ تَعْلَمْ بِوُجُودِيّ ؟ ! نَادِهَا يَا أُبَيّ عَلَّل الْأَب : لِأَنّ ثِيَابَك مَلِيئَة بِالدِّمَاء ، فَالنَّاس خائفة مِنْك .
وَلِأَنّ وَجْهَك مَلِيًّا بالجروح فَالنَّاس تخافك .
أَمَّا زَوَّجْتُك فَهِيَ لَيْسَتْ هُنَا . لَقَد سَافَرْت إلَى أَهْلِهَا . أَرْدَف الْفَتَى : آه لَوْ تَعْلَمُ يَا أُبَيّ مَاذَا حَدَثَ لِي ؟ لَن تَصَدَّق !
لَقَد أَخْذَ اللُّصُوصِ ثِيَابِي ، ومحفظتي ، بَل ونقودي ، وحذائي واوسعوني ضرباً وَتَرَكُونِي مغشيًا عَلِيّ قَرَابَة الْيَوْمَان اعْتَقَدُوا اننى قَدْ فَارَقْتَ الْحَيَاة .
فَاطِمَة مندي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى