صابر رشدي - لا تخف.. قصة قصيرة

دأب على الاعتقاد بأن هناك ثمة أشياء شاذة، وغير طبيعية، ولا تتفق مع المنطق الصارم الذي يحسم كثيرًا من الأمور فى هذا العالم، أشياء لم يألفها من قبل، بات يستشعرها الآن، دون أن يراها رؤية مؤكدة، لها قوة وسطوع الحقيقة، ارتعاشات جسده الكثيرة، المتلاحقة، فى بعض النهارات والليالي، ارتعاش الأسِّرة والمقاعد، واهتزازها الواضح أحيانًا، عندما يلقي بجسده المتعب فوقها، أشياء كثيرًا ما تترصده، تتربص به، حتى صار يعتقد أن هناك عيونًا خفية، وآذانًا مرهفة تلاحقه، وتحسِب عليه أنفاسه وخطواته، وربما تحاصره، بشكل ما، من كل الجهات، ولاتفارقه إلا نادرًا. قد تكون كائنات أخرى، لم تختمر صورتها بعدُ فى ذهنه، لا تتردد في سحقه في أي وقت، لكن يبدو أن ما يعوقها عن هذا الفعل، هو انتظار الفرصة المناسبة، واللحظات المواتية للتنفيذ، لكنه كان دائم السعى إلى الهروب المتواصل، بمهارة وحذر فائقين، حتى لا تستطيع التمكن منه، واصطياده بسهولة مثل الفرائس التعيسة.
كان الوقت مبكرًا فى صباح هذا اليوم الشتوي الذي جاءت بداياته قارسة البرودة عندما خرج من بيته، بينما البخار الكثيف يجثم على الجو، حتى جعله غائمًا مضببًا، لا يُرى من خلاله لأكثر من خطوات قليلة، سار فوق الرصيف مفعمًا بتلك البرودة، ثم دسَّ كفَّيه في جيبىِّ بنطاله لندفئتهما، سعيدًا بدفع البخار الصادر من جوفه فى زفرات متوالية وبطيئة، متأملا لونه الثلجىَّ الغائمَ.
لمْ تستمر هذه اللعبة كثيرًا، فقد أنهاها تساؤل عابر برَق في ذهنه فجأة: ما الذي يجري داخل أجسامنا حتى تتصاعد تلك الأبخرة مع زفراتنا فى هذه الصباحات الشتوية، بينما لا تظهر فى الصباحات الأخرى.. وإلى أين تذهب بعد ذلك؟ ثم وجد نفسه يجيب بتلقائية: إنه التلاشى المؤقت، ثم العودة مرة أخرى في صورة المطر، يهبط فوق أي بقعة فى هذا العالم. استدرك مرة أخرى بتساؤل غريب بعث في نفسه حيرة عميقة، موقنًا أنه يستحق عناء التفكير: أين تذهب أصواتنا بعد أن تخرج من حلوقنا وأفواهنا؟ أين تستقرهذه الكلمات؟ وفي أي مكان تتجمع دون أن تنهمر علينا مرة أخرى مثلما يحدث مع المطر؟.
ظلت الأسئلة تراوده وهو يواصل سيره الحثيث حتى تضاءل التفكير فيها رويدًا رويدًا إلى أن تلاشت من رأسه تمامًا، مع خروج كفَّيه من جيبىِّ بنطاله ليشعل سيجارة، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة واهنة وهو يدفع الدخان الممزوج بالبخار في دفقات متمهلة.
كان عدد الأشخاص محدودًا فى هذا الشارع الذي انحرف إليه، كانوا يبدون للوهلة الأولى وكأنهم أشباح خرافية خرجت منذ لحظاتِ قليلة من ظلمات الأساطير، بمعاطفهم الثقيلة، وملامحهم التي لا تظهر بوضوح، بينما هدير محركات السيارات يسبق ظهورَها فوق أسفلت الطريق، وهي تسير ببطء، وحذر، مخترقة الضباب بأنوار مصابيحها؛ مخافة التصادم واحتسابًا لأي طارئ محتمل.
في هذه الأثناء، وعلى نحو مفاجىء وغريب، وبدون أي تمهيد يذكر، بل ربما حدث ذلك في ثوانٍ غير محسوسة، سيطرت عليه مشاعر الخوف والرهبة، وتملكه إحساس طاغٍ بأن هناك من ينوى افتراسه والفتك به، تحت ستار هذا الضباب الكثيف. فها هى خيوط مؤامرة، تُنْسَجُ بإحكام ودقة، وسط مظاهر ملائمة وتوقيت مناسب.
جفَّ حلقه وشعر بالرعب الحقيقي لاكتشافه مايدور حوله بتلك السهولة؛ فجعل يحدق بإمعان، ويقظة تامة، فى كل الأشياء المحيطة به، حتى يستطيع حماية نفسه، والتصدى لأي هجوم غادرٍ قد يأتي سريعًا ومباغتًا.
- لماذا تتباطأ هذه السيارات في سيرها ويهرول الناس على هذا النحو المثير؟
همس مرتابًا، ثم بدأت خطواته تتسع وتتزايد، واشتدت لديه حدة القلق مع تنامي هذه الوساوس، صار لا يدري هل يحث الخطى، ويستمر لاهثًا، أم يعود إلى بيته ملتمسًا النجاة من خطر وشيك لايعرف نتائجه؟.
فكر قليلا، وبدا له أن التقهقر والانسحاب السريع هو أفضل ما يمكن تنفيذه. وتذكر أنه كلما اتسعت خطواته ابتعدت المسافة بينه وبين بيته، وعمَّقت لديه شعورًا بالوحشة والغربة؛ فتوقف عن سيره متمسمرًا في مكانه على نحو مفاجىء، دون أن يتباطأ أو يخفف من مشيه قليلا، في الوقت الذي كان يسير وراءه رجل طويل القامة، ذو جثة مهيبة، عريض المنكبين بصورة ملحوظة، له رأس ضخمة ورقبة ثور، وتبدو على ملامحه سمات ذئب جائع، واثق من التهام فريسته بكفاءة منقطعة النظير، اصطدم به الرجل من الخلف، صدمة قوية، كادت أن تلقيه على الأرض.
روّعته تلك الصدمة وأشعلت الفزع داخل كيانه؛ فاستدار في بطء وهو يقترب من الانهيار. كان الرجل يسدد إليه نظرات مفعمة بالسخرية والازدراء دون أن يتفوه بكلمة واحدة، قبل أن ينصرف في صمت ماضيًا في طريقه، بينما أخذ هو يبتلع ريقه بصعوبة، يحاول التماسك قليلا، ولملمة أعصابه الشاردة، متمتمًا بكلمات مبهمة غير مفهومة، شاعرًا بأنه لبث وقتا طويلا يستقبل تلك النظرات المخيفة، معتقدًا أن الزمن قد تحول إلى كابوس أبدي، ممتدًّا وبلا نهاية، يحمل فى داخله كل عناصر الخوف الموجودة فى هذا العالم .
واهنًا ومرتبكًا، عاود السير مرة أخرى وهو يتلفت فى كل خطوة، ناظرًا إلى الوراء كثيرًا، في الوقت الذي راحت أشعة الشمس تمد ذراعيها إلى هذا الصباح، تلتهم الضباب الذى يغبش الرؤية، وترفع عن الطرقات بقايا الأبخرة الندية؛ لتزرع الكون بالضوء الوافر وتنشر الدفء فى الكائنات الحية وفي الأشياء.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى