صابر رشدي - ضوء شفيف

لم يكن مستغرقا في نوم عميق أو يقظة تامة، عندما تناهى إلى سمعه صوتها الهامس، قادما من رحاب المجهول، فبدأت سحب النوم تتلاشى عن عينيه، وصار متأهبا لصحوة مباغتة.
كان صوتا ساحر النبرات، واضحا في هذه المرة. تقلب في فراشه دون أن يفتح عينيه، ثم جذب الغطاء فوق وجهه. مرت لحظات من الصمت، تباطأت فيها أنفاسه حتى لاتحدث ضجيجا يشوش إنصاته، لكن رعدة قوية أصابت جسده، بعدما شعر بأنامل طرية تلمسه برفق وحذر، وصوت فوق رأسه، مشحون بنبرة رجاء واهنة:
- انهض
سحب الغطاء عن وجهه، كانت تقف إلى جواره، تنظر إليه بطيف ابتسامة جميلة؛ أزالت كثيرا من ارتباكات مشاعره؛ فنهض، ثم جلس مستسلما فوق سريره.
محتفظة بطيف ابتسامتها تحركت، ثم جلست على مسافة قريبة منه.
من قبل، كان يصحو على صوتها، أما رؤيتها فلم تحدث على الإطلاق. مد يديه يتلمسها، وجد بين كفيه جسدا دافئا، ينبض بالحياة، نظر إلى عينيها؛ لمح دموعا حبيسة تترقرق فيهما، رفع كفيه قليلا، مرر أصابعه بين خصلات شعرها.
قال:
- من أنت؟
مرت لحظات ران فيها سكون عميق، مثقل بعذابات الحيرة، قطعته بلهجة ودود حتى لا تتبدد سكينته في الفراغ:
- أحبك منذ زمن بعيد.
- ماذا تقولين؟
- إنها الحقيقة.
- أى حقيقة؟
سأل متهكما، ثم استدرك بنبرة مريرة، محادثا نفسه:
- لا أدري، أى شيء تدور وقائعه في هذه اللحظات: عل أنا مستيقظ فعلا؟ أم ضالع في نوم ثقيل، أأحادثك في حلم ما؟ أم محموم أعاني نوبة هذيان؟ أو ربما هى سكرات الموت، تأتيني وحيدا، في منتصف ليل طويل، بطيء الانحسار، أكابدها وحدي، دون شهود، أو أقارب يضعون أكف الرحمة فوق صدري، مرددين ماتيسر من أوردة الغفران.
تكدرت ملامحها وهى تنصت إليه.
- حدثيني عن شيء يخلو من الزيف.
هناك أشياء كثيرة، الموسيقى مثلا.
أفلتت منه ضحكة عصبية.
قال مندهشا:
- الموسيقى؟!.. أحبها حقا ولكني آ......
قبل أن ينهي كلماته انسابت في الغرفة أنغام ساحرة لرقصة أسطورية، تليق بعاشقين وسيمين؛ فرضت صمتا لا إراديا. بنشوة مباغتة، هب واقفا وتناول يديها. ضمها إليه بنجاح ملحوظ كراقص عتيد.
بدءا يتحركان، ازداد تدفق الموسيقى تألقا، انصهرا تماما في جسد واحد يرفرف في أثير مسحور، صار كل شيء في الوجود يتابع ما يدور، في مهابة وانبهار!. لم تعد هناك معاناة أو زمن مثل أزمنتنا، اختفى الخوف من العالم، وحلت طمأنينة آسرة. لم تشتعل النفس برغبات أرضية، أو لذات حسية مؤرقة، سيطرت على الحواس مشاعر أخرى، لاتنتمي إلى ما نعرفه من مشاعر.
لم يدر كم من الوقت مضى وهو يحلق في سماوات سعيدة حين شعر بها تحاول إنهاء تلك الرقصة باستحياء بالغ؛ لكنه آثر الاستمرار، متجاهلا رغبتها.
همس في أذنها وهو غائب عن الوجود:
- لو بقيت معي..
ردت بنبرة رقيقة:
- لا أستطيع. مكوثي يكلفني جهدا لا أقوى على احتماله.
لا حظ خفوت الموسيقى على نحو يعلن بقرب نهايتها.
قال متحسرا:
- إنه الهروب.
آلمتها الكلمة، وارتسم على وجهها القلق الذي يلازم المتأهبين لسفر بعيد. ضمها إلى صدره ضما وثيقا، طابعا قبلة حانية فوق جبينها، مرددا وهو يطبق عليها بقوة:
- لا ترحلي.
كانت أمارات الخلاص أكثر وضوحا، لم تنجح معها في إيقاف هذيانه المحموم وهى تخفي آلامها. فتمتمت ببضع كلمات تلاشت على إثرها من بين يديه. فوجد نفسه وحيدا وسط الغرفة، يقبض على فراغ سحيق. ممتد وبلا نهاية، لم تعد هناك موسيقى تصدح في الأجواء بمقامات فريدة ونادرة. لم يعد هناك شيء، لا شيء.
قبل أن يسقط مرة أخرى في عزلته العميقة جاءه صوتها:
- إهدأ قليلا.
استدار ناحية الصوت، كانت تقف وراءه، تستند بظهرها إلى باب الغرفة، تطلع إليها. وجدها جميلة وفاتنة، ممشوقة القد، بيضاء بارعة التكوين. يصدر عنها نور ملائكي كان يراه في بعض لياليه.
- سأكون أسيرك.
كان منكسرا، وحزينا، وهو يتجه إليها بخطوات بطيئة، مثقلة بجاذبية مجهولة.
قبل الاقتراب قالت بنبرة صادقة قبل أن تغادر:
- سأعود إليك.
مضت. تاركة وراءها عطر أنوثتها، و باقة ضوء شفيف، أخذ ينظر إليها طويلا، وهو يئن تحت وطأة أشواق وليدة، وأمل حقيقي في عودتها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى