محمد فايز حجازي - شأنٌ يُغْنِيه.. قصة

يَداها تثاقلتا، قَدماها، رأسها، عجز تام، كريه ومرير، يسري في أوصالها، عروقها، برودة مقيتة تنتشر في جسدها. كل قطرة من دمها تئن، تصرخ، تستجدي ولا يُغيثها أحد، تستعطف وما من مُجيب.

الكل يعزف عن نجدتها، وكأن الشفقة قد اُنتزعت من القلوب انتزاعًا، كل القلوب، قلب ابنها، ابنتاها، زوجها، أو أن ثمة اتفاقًا مُشتركًا على إهمالها، تركها وحدها نهشًا لمصيرها المجهول، في تلك الغرفة المُغلقة، والمُظلمة ظلامًا يضع فوق الآلامِ آلامًا.

حاولت كثيرًا وبإصرار -أو هكذا ظنت- أن تنهض، تتحرك، أو تُحرك ساكنًا، بلا جدوى، وكأن جبالَ الدنيا قد جَثُمتْ فوق صدرِها، جبال من ألم وعجز ومرارة. دموعها تنساب غزيرة، مُحرقة، تشعر بها، تكوي قلبها، أحشاءها، كيانها، غير أنها لا تتجاوز مؤقتيها. نداءاتها، صراخاتها، تمزقها، تسمعها، تعلو، يرتج صداها، فقط في الضلوع.

- زوجي، حبيبي، أولا تذكر! أولا تذكر؟ عندما تزوجنا وأقمنا في غرفة صغيرة، مُلحقة ببيت أبيك القديم، بعد أن انتظرتك لست سنوات!
أنهيت خدمتك العسكرية، عكفتُ على خدمتكم، أنت ووالديك المسنين وأخيك الأصغر، سلكتُ كلَ السبل لراحتكم، لم آل جهدًا لإضفاء السعادة على قلوبكم، تلك السعادة التي كنتم تفتقدونها في حياتكم الرتيبة. لم يُرزق والداك بالبنات، عداني بمثابة الابنة، التي أهداها الله لهما عندما اصطلحت عليهما الأمراض، أحباني بشدة، اعتنيت بهما، بعلاجهما، ملابسهما، نظافة المنزل الذي أصبح كقطعة لؤلؤ.

أخوك الأصغر، دخلتُ قلبه، اهتممت به، بكتبِه، ذللت له الصعاب؛ ليتفرغ لدراسته وينجح. وجد فيّ الأخت التي طالما تمناها بئرًا عميقة لأسراره. أخيرًا عرفت البهجة طريقها لبيتكم الحزين.

أولا تذكر لي كل هذا؟! كيف استطعت أن تُسقط من حياتِك خمسة وثلاثين عامًا من الحب، الإخلاص، التفاني. ما أقساك! أأمضيتُ عمري، كل العمرِــ في رفقة من لا قلب له! كيف! ما عهدتك إلا مُحبًا لمسجدك، بيتك، أولادك، ولي.

أراك الآن تُجهز لخطبة الجمعة التي ستُلقيها يوم غد، أين أنت الآن من سيرة الرسول الكريم (ﷺ) التي طالما أخبرتنيها! ألم تقل لي إن امرأة دخلت النار في هرة؟ وإن رجلًا غفر الله له عندما سقى كلبًا؟ ألم يأمرنا الرسول (ﷺ) بفك كرب المسلم؟ فما ظنك بزوجتك؟ ألا تسمعني!

أولا تذكر يوم أن وهن قلبك وضعف جسدك، وظللت لعام كامل لا تبرح فراشك؟ يومها قررتُ أن أنتقل من الخدمة في بيتنا إلى الخدمة في البيوت الأخرى، أغادر البيت صباحًا، لأعود بما يُقيم أودنا، نفقات علاجك، مُتطلبات البيت، دراسة الأولاد، لم يشعر بمأساتنا أحد، ولم نسأل الناس إلحافًا، كانت الحياة دائمًا ما تقسو علينا، قسوة ما أهونها أمام قسوة قلبك الآن!

أمُحي كل ذلك من ذاكرتك!
واحسرتاه على العمر الضائع! آه يا وجعي من صمتكم! وآه لو تشعرون!

- ابنتي الرقيقة، أين أنت؟ أظنك في مطبخنا الضيق تعدين طعام العشاء، أولا تذكرين «لمَتَنا» وأنتم أطفال، حول وابور الجاز في ليالي الشتاء الباردة؟ أقلي لكم البطاطس والباذنجان، أعد لكم السندويتشات الساخنة، نأكلها ثم نحتسي المشروبات الدافئة تحت الأغطية الثقيلة، على صوت المذياع وحكايات ألفِ ليلة وليلة، كنتِ تخافين منها؛ فأحتضنك، أشرح لك؛ فتهدأي، وتتعلمي، وتنامي.

مازلتُ أذكر أول يوم ذهبتِ فيه إلى المدرسة، ضفائرَك الصغيرة، لهوك ومرحك معي، إصرارك على أن أضع لك طلاء الأظافر، ملابسَ العيد، حذاءك الجديد، تحضنيها وتنامين يحُفك السرور.

حبيبتي، أعيريني انتباهك قليلًا، الأمر جلل، خذي بيدي لأقف، دائما ما كنتِ رحيمةً بي، حنونة، أمرض فلا يهدأ لك بال، تذهبين بي إلى الأطباء. أستحم، تعتنين بشعري، تضعي عليه الزيت، تصففيه، تُلبيسينني جلبابًا نظيفًا؛ فأنتعش، نتسامر، ثم أنام قريرة العين.

ألا تسمعينني! أهنت عليك إلى هذا الحد! أين أختك الصغيرة؟ أمازالت في الجامعة؟ أم أنها معك ولا تأبه بي مثلك؟ هي تختلف عنك كثيرًا، شقية كالقطة، خفيفة كالفهد، كانت تتحين فرصة سجودي أثناء الصلاة، وتتقافز على ظهري ضاحكةً.

الآن وقد وهن عظمي وضعف ظهري ألا ساعدتماني كيما أقيمه؟ ألا ترسمان البسمة على شفتي أمكما؟ كم اشتقت إليكم برغم قسوتكم.
وآه لو تسمعون!

ابن عمري، أانتهيت من امتحاناتك؟ عامًا واحدًا وتصير طبيبًا، يشار له بالبنان، كمْ تمنيت أن أراك في عيادتك، يأتي إليك المرضى الفقراء من كل مكان، تُرضي ربك وتُساعد أهلك كما كنتَ تريد.
أنت، أنت وحدك من سيخرجني من تلك المحنة، يشعر بمعاناتي، يحس آهاتي، يشد من أزري ولو بكلمة، كلمة تُشعرني بأن عمري لم يضع سُدى، تُعينني على ما أنا فيه.

أنت مُرهف الحس دائمًا، رقيق المَشاعر، أجهشتَ بالبكاء، وسقطتَ مغشيًا عليك قبل دخولي إلى غرفة العمليات، بهذا أخبروني، المُمرضات

والأطباء، قالوا إنهم لم يروا ابنًا يحب أمه إلى هذا الحد، يود لو يفتديها بنفسه.

كنتَ تسمع محمد فوزي ونازك يغنيان «أحن قلب في الدنيا قلبك إنتي يا أمي» فأرى الدموع وقد ملأت عينيك. أين إحساسك بأمك الآن! بل أين أنت! لِمَ تتركني! أمات إحساسك بي!

عندما كنتَ صغيرًا في المدرسة الابتدائية كنتَ تحب نشيد «أمي أمي» من كتاب «عمر وأمل» تأتي من المدرسة وتنشدنيه
«أمي أمي ما أغلاها .... هي في عيني ما أحلاها
هي في قلبي لا أنساها .....أنا أرضيها أنا أهواها»

ألم تعد تهواني! أولا ترضيني الآن! أتضن على بمساعدة! لا أظنك تفعل!
كنتَ لا تستطيع الخروج بغير أن تُقبل يدي، وإن تفعل أجدك عائدًا من طريقك لتُقبلها، ألا تأخذ بيدي الآن وتخرجني من تلك الدوامة!
كنتُ أستيقظ قبل صلاة الفجر، فأراك مُنكبًا على دروسك، أبتهل إلى الله وأدعو لك بالصحة والنجاح والبقاء. أراك الآن وكأنك تتمنى ليّ الفناء!

الغرفة مازالت مغلقة، باردة، ومظلمة كقلوبهم جميعًا.. النداءات مستمرة.. الرجاء لا يتوقف.. والرد مازال سكونًا كئيبًا،غريبًا، وصمتًا.

أحدٌ لا يبادر أو حتى يفكر أن يُغيثها، يُجيبها، أو يرحم توسلاتها. الكل يعزف عن نجدتها، وكأن الشفقة قد انتُزعت من القلوب انتزاعًا، كل القلوب، قلب ابنها، ابنتاها، زوجها.. أو أن ثمة اتفاقًا مشتركًا على إهمالها، تركها وحدها نهشًا لمصيرها المجهول.

البرودة تزداد، النداءات تعلو.

والرد أصوات أقدام... فقط أصوات أقدام... تبتعد... تخفت... تتلاشى... ثم تختفي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى