صابر رشدي - شخص حزين يستطيع الضحك..

بجهد غير قليل، يستحق الإشادة والتقدير، استطاع أن ينجو من مخالب نوم ثقيل كان أكثر عذوبة من أحضان امرأة فاتنة، لها قدرة هائلة على سلب إرادة العاشقين.
نهض متعبا. تحرك ببطء ملحوظ، حتى وجد نفسه فى مواجهة المرآة الشاحبة، المثبتة فوق الحائط، نظر إلى الكيان الماثل أمامه فى عبوس ولا مبالاة. كاد ينكره فى البداية، لكنه شعر بالألم عندما حدق فيه جيداً، تأكد لديه أنه هو، فلم يكن هناك شخص آخر مساوياً له فى فراغ تلك الغرفة، فقط، سرير قديم متهالك، وبعض الملابس المتناثرة فى فوضى وإهمال، بينما الأرض العارية لا يعلوها سوى الغبار، وأعواد الثقاب،
والسجائر المطفأة. صعدت من أعماقه آهة مكتومة وهو يتأمل فيض النظرات الموحشة التى تطل عليه، وتحط من قدره؛ فآثر أن يتوارى. قبل أن يهم بالتحرك، وجده يصوب إليه نظرات أكثر إمعانا وتركيزا.
كانت ريشة مغموسة في عناصر الأحزان تنشر ألوانها الكابية، وترسم على ملامحه وجها فادح التأثير، دون مقاومة من جانبه تزيل المظهر المخرب، وتقصيه عن ذاته المترنحة وكينونته.
قبل أن يتهاوى مرة أخرى فوق سريره، قام بإشعال سيجارة، اعتصرها بشراهة مذهلة، ثم ألقى بها؛ فسقطت جوار عقب آخر كان واقفا فوق الأرض على نحو عجيب، لم يكن ممددا بصورة أفقية مثل بقية الأعقاب المتناثرة في المكان، تنبعث منها رائحة عطنة، فرماده المشرع نحو السقف جعله يبدو وكأنه زعيم لتلك القبيلة المستلقية حوله، في خمول وتراخ، كأنها جثث لسجائر قتيلة ومهملة تنتظر إزالتها. توقفت عيناه على هذا المشهد طويلا، وجعل يتأمله بتأن، مشعلا سيجارة أخرى. كان متريثا هذه المرة وهو يجذب أنفاسا عميقة، دافعا بها إلى الهواء بقنوط مرير. لم يخرجه من تأملاته سوى فأر صغير يتهادى في سيره، ماضيا أمامه دون خوف أو حذر، وبلا تردد. كعادة هذه المخلوقات المذعورة.
كانت تصرفات الفأر ماكرة، توحي بأنه يراه، لكنه لايحفل بوجوده. لذا لم يكن فعلا مثيرا ما قام به عندما اقترب منه للحظات متطلعا إليه، كأنه يعاين تمثال حجري غطاه الغبار، وتشابكت فوقه خيوط العنكبوت، ليواصل بعدها سيره البطيء والمتبختر، كأنه يلهو في جحره، مستمتعا بالأمان والطعام الوفير.
- حتى الفئران؟
كاد يصرخ، لكنه صمت مقهورا، وانفجرت في داخله ذكريات أليمة، لم يعد في الوجود شيء جميل، نضب معين البهجة والمسرة لديه، ازدحمت رأسه بالهموم والأسى. وتصاعدت مشاعر قاتلة، لاتدعه إلا شظايا متناثرة، تحتاج إلى عناء ووقت طويل للملمتها ومدواة شروخها.
- لماذا؟
على نحو غادر، تطفو الأسئلة الملعونة. تسيطر عليه نوبات من التداعي، يسترسل في مونولوجات قاسية وثرثرات مريرة:
لا شك أنني صرت إنسانا بلا جدوى، عاطلا من كل الإمكانيات التي تساعدني على بذل أى جهد ضئيل. أمضي في الحياة بلا ميزة تذكر، لم يبق لي سوى عمل أخير، مازلت محتفظا به، نقيا وفاعلا، حتى صار موهبتي الوحيدة، التي لا تعرف النضوب: إنه الحزن. منحة السماء لي وقدري الحقيقي. الشعور النبيل، والأكثر سموا، بدونه تصبح الذات آثمة، وغير مكترثة، لا تصل إلى حدود اكتمالها. الحزن المنظم والدءوب إزاء هموم البشر، وعذاباتهم، حتى لو لم يكن بمقدورى دفع هذه الآلام. فأنا لا أملك من القوة إلا ما يساعدني على البقاء حيا. الحياة شيء رائع وجميل... إنه يحب الحياة. يضحك أحيانا!. يتذكر جيدا المرة الأخيرة التي ضحك فيها، فهي قريبة جدا. ما زال صداها يتردد في داخله. حدث ذلك عندما اقتضت الضرورة دخول الحمام، وبدلا من فك أزرار السروال، قام بفك أزرار القميص، دون أن يشعر بما يفعل. ثم جلس بعد ذلك، مستقرا على هذا النحو: قميص مفتوح عن آخره، وبنطال مشدود بإحكام حول خصره. لم يفك منه زرارا واحدًا. وقبل الاندفاع في عملية ميكانيكية معروفة سلفا ومضمونة النتائج، انتبه إلى هذا الخطأ المثير، الذي لم يحدث لأحد قبله في هذا العالم، فضحك. وضحك، وأخذ يضحك كثيرا، حتى انهمرت كل الدموع الحبيسة من عينه، وراحت تنساب ساخنة فوق وجهه، ثم تتقاطر فوق جسده الهزيل دون توقف.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى