وداد معروف - أستوديو

كان عليَّ أن أذه - ب مسرعا لأكمل مطلوبات السفر للخارج، بعدما أعادني مسئول السفارة لمرور أكثر من عام علي الصور التي قدمتها مع الأوراق، سألت عن استديو كي ألتقط صورا فورية لألحق مكاني في الطابور الطويل، بعد أن رجوت مَن أمامي ومَن خلفي أن يحفظوا لي موقعي حتى أعود بالصور الجديدة، عمارة قديمة جدا في ميدان التحرير، مدخلها رحب وممتد براحة كبيرة، نزلت بعض السلالم الرخامية، أبوابه مشرعة، جعل من إطار الباب بروازا لصور زعماء مصر ومعهم أيضا صورة للشيخ الشعراوي، دخلت...أفهمته أني مستعجل جدا وأني لولم ألحق الطابور فسأعود لبلدتي ولن أستطيع التقديم إلا منتصف الأسبوع القادم، أشار لي وهو متجهم أن أجلس حتي ينتهي من تجهيز الفيلم في الكاميرا، تأملت المكان من حولي، كأنه لمتحف قديم، كل ما حولي لا ينتمي للقرن الواحد والعشرين، الأنتريه الذي أجلس عليه ضيعت الأتربة معالم نقوشه صار أسود، لم يعد يُعرف لونُه الأصلي، الستائر كالحة مهملة التنظيم، أعتقد أن هذه السجادة كانت يوما ما خضراء اللون، كل البراويز المعلقة تأكسد لونها الذهبي وتحولت إلي لون نحاسي قاتم، انتبهت لإشارته كي أسبقه إلي غرفة التصوير، لم تكن أفضل من حجرة الاستقبال درت فيها مندهشا، رائحة الرطوبة ملأت أنفي، فالأستوديو شقة واطئة في عمارة عريقة جدا في الميدان، لا تهوية ولا منافذ فيه إلا الباب الذي دخلت منه ولا أعرف بقية الغرف كيف تكون سألته : منذ متي هذا الأستوديو؟
- منذ ستة وخمسين عاما.
- ياااااه .... كل شيء هنا يدل علي القدم، صور قديمة حقا وعرائس بفساتين زفاف تعود موديلاتها لستينيات القرن الماضي، لم يعلق على كلماتي، لاحظت أنه قليل الكلام، وقف استعدادا للتصوير ثم قال:
- هيا يا أستاذ الكاميرا جاهزة، عدلت هيئتي في المرآة سريعا وقفت أمام الكاميرا أخذت الكادر الذي أراد ابتسمت حسب تعليماته، تمت اللقطة،
- قال: انتظر عشر دقائق ستكون الصور معك. بعدها، كانت هذه الدقائق بالنسبة لي كابوسا، لكن ما باليد حيلة، فلأجعلها سياحة إلي أعراس ومناسبات القرن الماضي، لم تكن صور الأعراس وحدها التي علي الجدران، كان هناك صور لمطربين ومطربات مشهورين، فهذا عبد الوهاب وذلك البرواز الكبير لعبد الحليم، وتألقت شادية في صورة رائعة من فيلم شيء من الخوف، علي الجدار المؤدي للردهة الداخلية رفع صور جمال عبد الناصر والسادات وكتب هذه الآية أعلاهما بخط كوفي جميل، إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، تحولت عيني للجدار المواجه للباب تأملت الوجوه النضرة مبتسمة، إلا هذه الصورة، وقفت أمامها بهيبة، سيدة تشبه أمي كثيرا وضعت علي رأسها طرحة سوداء شيفون ترتدي فستانا أسود بفتحة صدر علي هيئة حرفV ، تنظر إلى زاوية معينة لم تكن مبتسمة أبدا، يبدو أنها تحمل هما ثقيلا لم تفلح معها محاولات المصور لانفراج شفتيها عن بسمة، بجانبها صورة لليلى علوي في شبابها المبكر بضحكتها الطفولية الجميلة، أسفل منها برواز لفتاة جميلة تلبس فستانا أخضر، تبدو كأنها توجهت من عند مصفف الشعر إلي الأستوديو مباشرة؛ فمازال مكياجها طازجا، تدل تسريحة شعرها علي أن هذه الصورة التقطت في الثمانينيات من القرن الماضي، ترى كيف تبدو الآن هذه الفتاة، أتخيلها ككثير من النساء اللاتي تضخم جسدهن وتاهت معالم أنوثتهن في أرطال الدهون المتوحشة التي تفترس بقسوة الرشاقة فتحيلها إلي كتل بعضها فوق بعض، التفتُّ مرة أخرى إلي براويز العرائس، ثماني عرائس اختلفت اللقطات ودرجة قرب العريس من عروسه وإمساكه بيدها، منهم من وقف بجدية ممسكا بيد عروسه محافظا علي مسافة بينه وبينها، ومنهم من اقترب حد الالتصاق وقد أحاط خصرها بذراعه محتويا يدها بكلتا يديه، ومنهم من ضمها إلى صدره لامسا خدها ومسندا رأسه علي رأسها، كلهن رشيقات وإن اختلفت درجة جمالهن، كلهن مبتسمات، لكن هل كن كلهن سعيدات! طُليت كل الصور بالتراب فصار جزءا منها، لوكنت أنا صاحب هذا الأستوديو لجعلت كل شيء فيه يبرق علي قِدَمه، وحده المصور الذي يلمع في هذا المكان، ذهبت له أتعجله الانتهاء من الصور، بدا المكتب مزدحما بأشياء لا تتبينها من عشوائيتها، أكياس وأوراق وعلب وضعت فوق زجاج مكسور يظهر من تحته مجموعة صور لأطفال وعجائز وصبايا، لم يختلف حال مكتبه عن بقية الأستوديو، ظللت أتابع في قلق المصور وهو يعمل في الصور، بدا في الأربعين من عمره يرتدي بنطلون وتي شيرت أحمر اللون كتبت عليه عبارة بالإنجليزية تعني "ملكك "، تعجبت من بنطلونه المقطع، لا أقبله من شاب في العشرينيات فكيف برجل أربعيني انحسر معظم شعر رأسه يلبس هذا الموديل! ترى هل هو صاحب هذا الأستوديو ورثه عن والده أم يعمل فيه ؟ ساءلت نفسي "لِمَ لَمْ تتعدَّ روح الشباب فيك إلى هذا الأستوديو فتحدِّثَه وتزيل عنه الأتربة وتضيف لتلك البراوايز القديمة أخرى حديثة، وهل إزالة الأتربة من علي أسطح كل شيء هنا طعن في العراقة، هل هي جزء من عبق التاريخ الذي عليكم أن تصونوه بأمانة شديدة ؟! " لم يتسق مظهره في نظري مع المكان أبدا، شعرت بالقلق فقد جاوز الوقت الذي حدده لي ولم ينته بعد .
- باضطراب قلت له: لو سمحت حضرتك أنا تأخرت .
- حالا سأنتهي منهم بعد دقائق، قالها وهو ضائق بي .
انتظرت أن ينتهي وعيوني تتعجله، هل تكفي الساعة المتبقية للعودة بالسيارة إلي السفارة ؟ هل سأجد مكاني في الطابور محفوظا؟ أخشي أن أعود دون تقديم أوراقي ياااه ... وضع الصور في المظروف وأخيرا ابتسم وهو يسلمها لي، انطلقت سريعا إلي السفارة، لم أجد موقعي في الطابور فقد تنازعوا وتغير الترتيب وأعادوني لآخر الصف، بيني وبين الشباك خمسة عشر مواطنا، ها هي الساعة تقترب من الثانية عشرة والنصف ولا أعلم هل ستؤخذ أوراقي أم سأعود لمدينتي كالمرة السابقة دون الانتهاء منها ؟




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى