عبد الجبار الحمدي - رأس مقطوع يتكلم

مثل كل الصبية لم تشهد ايامة سيركا حقيقيا إلا في تلك الأيام من صباه في البصرة، كان يسكن في منطقة تسمى الطويسة وهي في الجهة الاخرى من الجسر الاحمر الذي كان الموقع لنُصِب خيام السيرك الكبيرة والصغيرة، ذُهِل حقا بما يراه من رجال ونساء وحتى أطفال بعمره أو اكبر منه قليلا وهم يتواكبون بين الحشد الكبير من الناس يدعونهم لدخول السير، فعالمهم عالم خرافي، الحركات البهلوانية فيه لا يمكن ات تصدق حتى الحيوانات وهي قابعة في اقفاصها تشير إليك بالدخول لكأنها تدعم فضولك، إلا من خيمة صغيرة يقف على بابها رجل بملابس غريبة وقد غطت وجهه ألوان اغلبها اسود الحقيقة أخافت عصام فسارع للإمساك بيد تومان، تومان هذا رجل امتهن العزف على الناي بطريقة تجذب الصبية إليه من خلال انفه ولقربه من اهل المنطقة بسبب مهارته فالجميع يعرفه، كان متواجدا ايضا في باحة السيرك فاقترب عصام منه قائلا:

يا عم تومان هل هذا جني؟

تومان: مقهقها هههههههه بالطبع إنه انساني عادي ولكن عمله يتطلب منهان يكون بهذه الهيئة

عصام: وماذا يفعل خارج الخيمة أيخيف الاطفال.

تومان: يا لك من صبي!! لا عمو إنه يدعو الناس ليشاهدوا كما مكتوب هناك... انظر راس مقطوع يتكلم

عصام: يا إلهي رأس مقطوع يتكلم.. كيف؟!! مستحيل

تومان: ما رأيك ان تدخل وترى بعينيك؟

عصام: لكن يا عم لا املك ثمن بطاقة الدخول

تومان: لا عليك سأدفعها بدلا عنك

جلس عصام في الصف الاول، قلبه يقفز مع كل نبضة الى بلعومة لكنه يبلع ريقه فيستعيده، شغفه مسلط على الرجل الذي وقف امامه يخصه بنظرات كانت كفيلة بأن تجعله يتبول على نفسه لولا انه امسك نفسه بشدة... كل ظنه ان الرجل سيقطع رأسه بحيلة ما كما قال له تومان ليتكلم لكن المفاجأة جعلته يهرب من مكانه خرج يجري صارخا وسط ضحك المتفرجين عليه فقد بادره الرجل برفع غطاء عن طاولة صغيرة كانت امامه على المسرح فجأة خرج من وسط ثقب فيها رأس مخضب بالدم وهو يقول: سل يا سيدي ماذا تريد ان تعرف؟؟ لم يكمل الجملة إلا وعصام واضع يده على ذكره بعد ان تبول بشكل جعله يهرب صارخا جني... جني مقتول..

عشرون عاما مضت على عصام لا زالت مخيلته تحمل تلك اللحظات المرعبة للرأس المقطوع، فبعد ان ابتلعت السنين عمره وغاص في حياة لم يكن له شأن فيها غير ما خرج به لنفسه وظيفة مراقب في البلدية... يجبوب الشوارع مع بعض افراد يرقبهم نهار طويل يقضيه في نفس المنطقة بين الطويسة والعشار... أغلب الاحيان يجلس في مقهى مجاور لسينما الكرنك وسط ذلك الزحام والضجيج الذي يجد نفسه محاطا بعالم لا يملك منه سوى الراحة، فالضجيج يريح وحدته التي تنال منه حتى في الليل الطويل، كعادته سرعان ما يركب المساء باللعب وهو يقلب احجار الدومينو مع بعض صحبة وقت مع عدد من استكانات الشاي المحترق الى ان يُعلَن عن اغلاق المقهى بعدها يسارع الى غرفته المستأجرة في فندق متهالك إلا قليل... جدرانه تبعث رساله له تقول له... انك لا تشعر بالفرق والغربة حين تموت فحالِ كحال القبر بل القبر ربما اكثر أمانا... فما أن يضع رأسه على الوسادة التي يغطيها بمنشفة صغيرة كي لا يشم رائحة الوسادة التي رافقته دهرا من سيلان لعابه المتساقط وحتى مخاطه نتيجة صراخه حين يفزع وهو يصيح ابعدوا الرأس المقطوع عني أنه يتكلم... في كل ليلة ومنذ ذلك النهار لا ينفك يرى حادثة الراس المقطوع وهو يتكلم، سنين مضت وهو ينظر الى النافذة التي يواجهها اثناء نومه بعد ان تتثاقل جفون عينيه يرى ذلك الرأس متدليا والدماء تقطر منه قائلا: سل ما تريد؟ حتى يصرخ مهرولا الى الخارج... ربما ينتظر لأكثر من نصف ساعة يمسك صدره يستعيد لملمة قشعريرة جسمه، يدخل متجها الى النافذة ثم يحرك يده في الهواء ليؤكد لنفسه بأن لا رأس متدل منها... كان الرأس شبيها برأس الرجل الذي شاهده عند مدخل الخيمة، عشرون عاما مضت ولا زالت ملامح الرجل لا تفارقه ابدا... لا ينام إلا بعد ان يقرأ المعوذتين ثم يطلب من الله وآل البيت ان يدفعوا بعيدا عنه كل هاجس الشيطان والجن اللذان يحيطان به.... يغفو بعد ان يرهقه الوهن، يسلم نفسه الى من بيده الروح... حياته كما يقول لتحسين صاحب المقهى أنها بيد جلاد السجون في كل ليلة يضيق خناق الحبل على رقبته ولولا لطف الله لكان ميتا... فقال لتحسين في مرة..

عصام: عفيه تحسين أذا حسيت في يوم انا ما مريت عليك للقهوة الصبحية تعال شوفني ميت عدل؟ لان في مرة كتلك عن سالفة الراس المقطوع اللي شفته بالسيرك وشلون طلعلي من عشرين سنة، شل حياتي ونغص كل احلامي فعفية تحسين سوي مثل ما اكلك لأن هالأيام هواي كاعد يجيني بالليل من الشباك..

تحسين: يا فتاح يا عليم يا كريم... شلك بهاي القصة... يزي عاد مو مليته

عصام: ادري ولكن...

تحسين: خلاص أمر عليك عود واذا لكيتك ميت ادفنك بأيديه... يلا اشرب جايك وروح على شغلك

ذهب عصام لعمله وروتينه الممل، في هذه المرة شعر ان هناك فسحة جديدة دخلت عليه لربما حينما قال سره الى تحسين شعر بالراحة النفسية، كثرت ابتساماته حتى انه اعطى العمال اجازة لبقية النهار.. عاد الى المقهى حيث تحسين وهو مستغرب!! عندما رأى عصام مبتسما ولأول مرة منذ زمن..

تحسين: يا الله!!! تدري عصام اول مرة اشوفك تبتسم، ما شاء الله وجهك حلو يصير لعد ليش دوم مغندب؟ ولهاي المناسبة راح كل مشاريبك اليوم عليّ بعد شتريد؟

عصام: حبيبي تحسين ورد انت، ما دام هالشكل لعد اريد جاي مو بايت

تحسين: هههههههههه صار وتدلل

قضى نهاره كله في المقهى، شارك تحسين الغداء ايضا، كان فيها تحسين ولأول مرة يشعر بأن هناك إنسان غير الذي يعرفه ربما مثله في الحال يشاطره الحديث طموحات يأمل ان يراها تتحقق... شعرا الإثنان أن هناك شيء ما يجمعهما...

دخل المساء ولا زال عصام يملك حس الفكاهة لاحظ صحبه أنه غير الذي يعرفونه شاركوه ابتساماته وانطلاقة مرحه... حتى وقت متأخر من اغلاق المقهى، دخل غرفته، لم يكترث بجدرانها المتهالكة او رائحتها المرطوبة حتى النافذة اقترب منها ونظر الى البعيد وهو يقول: لقد تحررت منك أيها الرأس المقطوع فلم يجدي بعد كلامك... الى الجحيم بكل شياطينك التي جعلت من حياتي عصارة هضم مُرة، الى الجحيم بكل سيركات العالم، في تلك الليلة نام وراسه خال من هوس وخيالات ذلك الرأس، لم يراه متدليا من النافذة كما تعود شعر بالطمأنينة والراحة... لم يعي نفسه إلا حين سمع ورأى تحسين يبكي وهو يواريه بطن قبر مظلم والى جانبه يرقد الرأس المقطوع متوسدا أيضا لكن دون أن يتكلم.




القاص والكاتب

عبد الجبارالحمدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى